ربما يكون الأميركي نورمان فينكلشتين Norman Finkelstein، اليهودي الوحيد الذي منعته إسرائيل من دخولها، عندما حاول عام 2008 زيارتها، إذ أعيد من حيث أتى بعد حجزه واستجوابه لأكثر من 24 ساعة، بسبب آرائه المؤيدة للحق الفلسطيني، وكونه صاحب الصوت الأعلى والأقوى، منذ عقود، في إدانة جرائمها مع الفلسطينيين.
ولد نورمان عام 1953 في نيويورك، لوالدين يهوديين من الناجين من معسكرات الاعتقال في وارسو وأوشفيتز، والتقيا تالياً في مخيم للنازحين في النمسا، ومنها هاجرا إلى أميركا، ومن والدته تعلّم الدعوة للسلام والحق.
حصل نورمان على الدكتوراه من جامعة برنستون، المرموقة، وشغل مناصب أكاديمية عديدة في جامعات عدة معروفة، ووضع العديد من الكتب وعشرات المقابلات والمحاضرات والأبحاث، التي تركزت مواضيع أغلبيتها على الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والهولوكوست.
بسبب مواقفه الصريحة، حاربته وسائل إعلام أميركية كثيرة، وعاداه اللوبي الصهيوني بقوة، وسعت مجموعات إلى طرده من وظائفه التعليمية، لكن كل ذلك لم يفت من عضده، ولم يستسلم، وبقي مناصراً للحق الفلسطيني.
في مقابلة حديثة مع مقدّم البرامج الشهير بيرس مورغان، ذكر نورمان أموراً مهمة عدة، رداً على اتهامات المقدّم له بالتحيُّز غير المبرر ضد إسرائيل، ورفضه إدانة ما قامت به «حماس»، فقال (بتصرف) إنه من الناحية المبدئية يدين الفظائع التي ارتكبتها «حماس» في 7 أكتوبر، لكن يجب وضع الأمور في إطارها. فمن ارتكبوا تلك الفظائع يجب محاكمتهم وإدانتهم، لكن القضاء سينظر حتماً بعين العطف إلى ما قاموا به، لأنهم كانوا «أسرى معسكر اعتقال»، وستتردد المحكمة كثيراً في إدانتهم. فالألف والخمسمئة مقاتل، الذين قاموا بعملية أكتوبر، كانوا من مواليد معسكر الاعتقال، وكانوا يعيشون بلا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل، ويشكون من مختلف أمراض الجوع واليأس، مع فقدان الحرية والكرامة، كما سبق أن تعرضوا وأهاليهم، طوال سنوات، لمختلف الاعتداءات والإهانات على يد القوات الإسرائيلية على مدى 15 عاماً، التي كانت تشن الغارات الجوية عليهم وتفجّر بيوتهم وتعتقلهم وتعاملهم بمنتهى التعسف، ولم ينجُ من بطشها لا النساء الكبار في السن ولا حتى الأطفال، وعندما اخترق أولئك الشباب الحواجز الأمنية في ذلك اليوم، كانوا على علم بأنهم غالباً لن يعودوا أحياء إلى أهاليهم، فلم تكن إسرائيل عادلة أو رحيمة معهم منذ عام 1948.
يضيف فينكلشتين أنه شعر في عام 2020 باليأس، بسبب عدم رغبة الفلسطينيين بالاستمرار في النضال والثورة على أوضاعهم، وقرّر أن يضع القضية وأصحابها خلف ظهره، ويمضي لشؤونه، وشعر بالألم لقراره، لعلمه بأنه بذلك يتخلّى عن قضية شعب كرّس 15 عاماً من عمره للدفاع عن مأساتهم وآلامهم ومخاوفهم، وأعتقد أنه كان آخر صوت يمثلهم في العالم الغربي، ولا أمل آخر لهم. لكنه أصبح الآن أكثر إيماناً بعدالة قضيتهم.
* * *
أكرر ما سبق أن قلته في أكثر من موقف ومقال ومقابلة، إنني ضد كل ما تمثله «حماس» من آراء وأفكار ومواقف، لكن ذلك يجب ألا يمنعني للحظة من التعاطف مع الحق الفلسطيني في وطن حر مستقل.
وأكرر أيضاً بأن المشكلة الحقيقية ليست مع إسرائيل، بالرغم من كل جرائمها، بل مع تخلفنا، فالتخلف هو الذي أضاع الأوطان، وبسببه ستضيع هي وغيرها!