كيف نفهم تصريح اولمرت عن وصفه لدولة إسرائيل بأنها يهودية؟
ردد العرب القول بيهودية دولة إسرائيل باعتباره مؤججا لروح الكراهية لها حتى ولو كانت علمانية الطابع وديموقراطية الأداء بين أبناء شعبها. ورددوه أيضا تجديدا واستمرارا للتراث الإسلامي الذي ظل يكرر موقفه من اليهود منذ ازمتة المبكرة مع يهود يثرب وقت نشاه الإسلام. فمع كل ازمة كانت تقوم الحروب وتسال الدماء ويخرب العمران. ولم يتحقق ابدا ان الغي دين دين آخر بل زاد عدد المتنطعين علي كل دين وإزداد عدد القتلة واتسعت مساحات العنف وقل عدد العقلاء وخرجت الحكمة من التاريخ وحل محلها كل ما هو غيبي وغير عقلاني.
كان ذهاب الجميع إلي انابوليس موقفا يحمل ضمنا أمنية يتمناها الجميع بحل توافقي تخرج منه المنطقة إلي أفق أوسع ويحمل قدرا من الأمل بوضع نهاية لصراع القتال والدم وان يتحول الصراع إلي مجال التنمية للجميع. فكما لم تثبت الأديان أنها قادرة علي محو بعضها البعض أثبتت أيضا العناصر المكونة للشرق الوسط أنها لم تستطع إذابة البعض في بعضها الأخر. لكنهم اثبتوا بما لا يدع مجالا للشك أن التخلف له جذور عميقة في بنية أي مجتمع حتى ولو كان المجتمع الإسرائيلي ذاته.
فالمتخلف هو من لا يري سوي العنف وسيلة لتحقيق أهدافه. قدرته علي الحوار العقلي منعدمة. امكاناته الفكرية لا تؤهله لفهم قوانين ما يجري عليه وعلي الآخرين. لا يري سوي ذاته بأنانية مفرطة. يستدعي حججا اخترعها الاقدمون لحل مشاكل لم يعد يطرحها احد في الزمن الحديث، فيقع في شر جهله بحقائق الحاضر وقواعد المستقبل.
فالاستدعاء الديني بيهودية إسرائيل قبل وفي اجتماع انابوليس ليس سوي هدم لأي فرصة مستقبلية لسلام شامل. فإذا كانت الأديان تعجز عن وضع حد لتناقضاتها فان استدعاء اليهودية كهوية للدولة الأصغر مساحة والأكبر اقتصادا والأغزر علما والأنشط سياسيا والأفضل تأسيسا ونظاما يجعل القوي الديموقراطية والغير ديموقراطية ( التي تعج بها منطقتنا ) تتواري خجلا أمام شعارات التأجيج الحماسية لحزب الله وحماس وفضلات القاعدة وتنظيمات الجهاد. فكما لا يفل الحديد إلا الحديد فلا يؤجج المتخلف إلا المتخلف مثله. لغتهما واحده، أساليبهم متماثلة، نواياهم وأهدافهم مشتركة. فهل يقصد اولمرت حقيقة ما يقوله أم انه يقوم بدور المعالج النفسي بالضغط علي البؤرة الصرعية للجماعات والتشكيلات السياسية المتطرفة لمزيد من بزل ما بها من خفايا وإخراجها إلي العلن. أو ربما لتنشيط الطاقة العدوانية لدي باقي المجتمعات المحيطة به لترتكب ما يعطيه الحق في الرد واستدامة ما هو قائم منذ العام 1948؟
فإسرائيل كدولة حديثة لن يكون أدائها يهوديا مخالفا لأدائها كدولة علمانية ديموقراطية. فالعقل العلماني العلمي لن يسمح بالغريزة اليهودية بالانطلاق. لا لسبب الا لانه جزء لا يتجزأ من الصناعة المعلوماتية في العالم الحديث. لكن اسرائيل بالتوصيف اليهودي تستخرج من جاراتها أسوا ما فيها وفيهم. يهودية الدولة لن تكون خطرا عاجلا علي نفسها، إنما ستحيل أخطار الصراعات الدينية لتتفجر في مجتمعات المحيط. وهي مجتمعات في حاجة إلي قدر من العقلانية والعلمانية والديموقراطية تسمح لها بوضع قدم ثابتة علي طريق المستقبل بدلا من محاولات جرها إلي الماضي بتوصيف نفسها مرة بالإسلامية دينا أو بالعربية عنصرا. لكن إسرائيل عبر التوصيف اليهودي تسعي لخلق عدوها الديني في مقابلها. وتنفي حركة تأسيسها في أربعينات القرن الماضي لان المؤسسين كانوا جميعا إما من العلمانيين أو اللادينيين أو الملحدين نهارا جهارا دون أي حساسية بإعلان ذلك. فالكيبوتز الإسرائيلي الذي خرجت منه معظم القيادات الإسرائيلية وساهموا في إنشاء الدولة كانوا من الشيوعيين وأبنائهم النازحين من أوروبا شرقا وغربا. وكان القادة العسكريين لها ممن تمرسوا وخبروا في الحرب العالمية الثانية دفاعا عن الديموقراطية وحق الجميع في المساواة في مواجهة النازية والعنصرية. بل إن الدولة ذاتها كانت تتأسس باعتبارها ملاذا لليهود من عسف من يكرهونهم واضطهدوهم في بقاع عده من العالم. لهذا فان فكرة الاضطهاد تعود وتبرز عبر التوصيف اليهودي لدولة إسرائيل لأنها بيهوديتها تضع تميزا وفوارق بين مواطنين هم من صلب من أسسوها أو ممن يقطنوها من عرب 48 وغيرهم. وتستدعي قاعدة قديمة غادرتها مجتمعات العالم جميعا زمن الحكم بالأديان. بل إن الصراع الديني داخلها سيكون علي أشده بين الثلاثة أديان ولن يجدي معه إلا بالتصفية النهائية للمسيحيين والمسلمين وإما بالخضوع التام للعنصر اليهودي. وهو ما يجعل من إسرائيل بكاملها صورة معكوسة لوضع اليهود في بلدان متعددة لفترات كثيرة من التاريخ. وهذا هو الخطر الداخلي الآجل في توصيف اولمرت لوطنه. وبهذا يصبح التقدم الإنساني شرقا وغربا مهددا من جديد عبر إسرائيل ويصبح الوصف بأنها كيان ديني عنصري صحيحا.
ولن نبتعد كثيرا إذا ما أضفنا حالة الفزع التي يرددها الإسرائيليين عند ذكر المحرقة والهولوكوست أو في فكرة العداء للسامية التي هي سيف مسلط علي كل من يمارس التمييز ضد اليهود أو الساميين. ويقابلها بالتالي فزع لكل ما هو مسيحي أو مسلم داخلها. فحال الدولة اليهودية سوف يجعل من كتاب مثل التوراة مرجعا لها وهو يمتلئ بما يتوجب عملة إزاء كثيرين. ولن تكون المسافة شاسعة بين المطبقين لما في التوراة ومن يتوق لاختيار آيات من القرآن ليقف موقفا دفاعيا إزاء ما سوف يجري تحت التوصيف اليهودي لدولة اولمرت. فالرجل ومعه فريق من السياسيين المحنكين يعرفون أن قوي المجتمع المدني وحال الديموقراطية في بلاد المحيط ليست بالقدر الكافي لمنع تنظيمات الإسلام السياسي من الوصول إلي السلطة بفضل عسف السلطة ذاتها. ولم يمنعهم من جر بلادهم إلي هاوية المجتمع الديني سوي قبضة الدولة الحديدية ونظامها الباطش الذي لا يفرق بين من يسعى إلي الديموقراطية ومن لا يريدها إلا بقدر ما يمكنها من البقاء في السلطة. لهذا فإن ذات السلطة ستجد نفسها في مواجهة دولة دينية تتحدث عبر النصوص اللاهوتية ولا تقدم حلولا إلا علي الصورة الإسلامية القديمة ” اقتلوهم حيث ثقفتموهم” و ‘وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد”. وهو موقف يضيع حقوق المواطنة والمدنية وحق الحياة بأمن وسلام طبقا لنصوص أخري مثل ” وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ “. أو طبق نصوص ميثاق الامم المتحده الاكثر رحمة من جميع الاديان.
فالمفارقات في الدين الواحد أو بين الأديان تحفز الأصوليين وغيرهم لاستخدام أسوأ ما في تراث المنطقة من عنف ومصادرة لإعادة إدارة طاحونة الصراع متناسيين انه صراع لم تنهه الأديان ولم تنهه العسكريات. فهاجس النقاء والطهارة يشترك فيها أهل الأديان كل علي طريقته وتشترك فيها العسكريات أيضا باتفاق أن كل ما هو مدني وإنساني هو رخو مائع غير حاسم يقبل المساومة ويقدم التنازلات. ففي الأديان إما كافر أو مؤمن وفي العسكريات إما منتصر أو مهزوم. لهذا لم ينجو دين من أن يكون عسكريا يوما ولم تنجو عقيدة من أن تكون مسلحة بكل قوة ومن رباط الخيل. حتى في المسيحية فقد قيل فيها ما جئت لانقض بل لأكمل. وما جئت لألقي سلاما بل سيفا.
فاولمرت بتصريحه ليس سوي الوجه الآخر لابن لادن لكن بنعومة ويلعب دور الزرقاوي برقة ودبلوماسية. فهو يعرف أن العولمة وفلسفة السوق وزمن الاتصال بدون موانع تنتفي معه الحدود والحواجز فلماذا توضع أسلاك الدين الشائكة أثناء محاولات حل مشكلة الشرق الأوسط كفرصة ربما تكون الأخيرة. فالتصريحات أتت في وقت تراجعت فيه القوي الجهادية ظاهريا عن العنف بما يسمي المراجعات. ونقول ظاهريا لان التمكين الغائب عنهم لم يمكنهم من فرض مبادئهم وهي الحجة التي سيقت في أقوال سيد إمام صاحب كتاب المراجعات. ويقابله في الدولة السعودية مفاجأة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي العام هناك وبحزم أن عمل الإرهابيين السعوديين ممن غادروا المملكة تحت مسمي الجهاد يسيء للإسلام وأنهم ينفذون عمليات قذرة بسبب التغرير بهم.
فبغض النظر عن مدي اختلاف فقه المراجعات عن الفقه الذي ساد منذ ثورة النفط التي أفضت إلي المليشيات الدينية فان اولمرت يبدو كمن يعض علي أصابعه ندما علي أقوال سيد إمام وأقوال آل الشيخ في تراجعهما عن الجهاد والعنف والجريمة وما تصريحة بيهودية دولة إسرائيل سوي إصلاح لما أفسده الشيخان. وهنا لا نجد فرقا بين فريق ابن لادن والظواهري كمخرجين ومنتجين لأفلام العنف وبين واضع السيناريو والحوار اولمرت. وفحوى العمل انه لا يفل الدين إلا الدين. ولا يفل المجتمع المدني الساعي للتقدم إلا المليشيات الدينية المسلحة. وهنا يختفي القانون الذي يساوي بين المواطنين ويعطي فرصة متكافئة ” من كل حسب جهده ولكل حسب إنتاجه ومشاركته بكفاءة كما جري في الكيبوتزات الإسرائيلية إلي ” من كل حسب إيمانه ولكل حسب عنفه”.
لكن من المؤكد أن إسرائيل كدولة حديثة لن تقع في فخ الأصولية مهما قال وصرح رئيس وزرائها لأنها تحمل إرثا متراكما منذ عصر النهضة وحتى اللحظة الحاضرة. فالقانون الذي عزل واجبر رئيس دولتهم لمجرد شبهة تحرش جنسي، ومحاكمة كل مسئول تفوح منه رائحة غش مالي في البورصة أو قبول رشوة ولو كانت طاقم من أدوات المائدة، فان التراكم المدني والقانوني لا يمكن إزالة آثاره بسهولة. تراكم تاريخي صحيح وفي اتجاه سليم لم تعرف مثيلة باقي المجتمعات التي يؤجج فيها اولمرت غرائزها الدينية وعنفها التي لا تعرف سواه واستعدادها للانقضاض عبر التمكين بما ستقترفه مليشياتها الدينية كما فعلت حماس وحزب الله بقياده أناس يشبهون كهنة بني إسرائيل في طول لحياهم ويتمتمون جميعهم بآيات القتال كل بلغته. الفارق بينهم أن كاتب السيناريو الإسرائيلي ورائه مخرج عقلاني مدجج بكل ما وصلت إليه المعرفة والتكنولوجيا بينما السيناريو العربي هو فوضي والمخرج والممول والمنتج لا يعرف الفرق بين الكاميرا والبندقية، وبين الطائرة والتابوت الطائر.
elbadryk@gmail.com
* القاهرة
من رئيس وزراء إلي نبي
تحية تقدير لكاتب هذا المقال لعل يوقظ الغافلين من غفوتهم