*
مهنّد الحاج علي | نائب مديرة المركز لشؤون الأبحاث في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
اقتصرت الإنجازات التي حقّقتها سورية خلال العام الماضي بمعظمها على السياسة الخارجية. ذلك أن أحمد الشرع الذي نصّب نفسه رئيسًا لم يقدّم الكثير على الصعيد الاقتصادي أو الأمني أو السياسي الداخلي، وركّز بدلًا من ذلك على إعادة بناء العلاقات الخارجية للبلاد، مُحرزًا نتائج لافتة نسبةً إلى ماضيه الجهادي.
وفي ظلّ تداخل الملفَّين الأمني والسياسي، تُظهر أحداث العنف في السويداء أن تقديم تنازلات سياسية طويلة الأمد، وبناء تحالفاتٍ تتجاوز قاعدة الشرع الإسلامية، ليسا مطروحَين على الطاولة. كذلك، لم تُطلق الإدارة الجديدة مسارًا نحو تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الذي يُعدّ خطوةً ضرورية لحماية الأقلّية العلَوية من الهجمات الانتقامية. مع ذلك، نجح الشرع في الحفاظ على الهدوء بين مختلف الفصائل الشمالية التي كانت تعارض نظام الأسد، والتي لطالما شهدت اقتتالًا داخليًا. وقد يكون الدعم التركي مسؤولًا عن ذلك، حتى وإن كانت أنقرة قد لجأت سابقًا إلى الشرع لإدارة الاقتتال بين الفصائل تحت المظلّة التركية. هذا ويوفّر تجنيد عناصر جديدة في قوات الأمن فرصةً أمام الشرع لتوطيد سلطته على هذه المجموعات، ثم دمجها في مؤسسات الدولة.
مع ذلك، وبعيدًا عن الفصائل المسلحة، لم يُطلق النظام الجديد مسارًا واضحًا نحو الشرعية السياسية، سواء عبر انتخابات وطنية أم جدول زمني لإجرائها. وفي ظلّ قيادةٍ لا تسيطر سيطرةً كاملةً على أراضيها، ولا تحظى بولاء قواتها المسلحة الكامل، تُعدّ الشرعية السياسية شرطًا أساسيًا للاستقرار والأمن، اللذَين لا يمكن تحقيقهما إلّا من خلال نهج حكمٍ أكثر شمولًا. وينطبق ذلك على الطائفتَين الدرزية والعلَوية، كما ينسحب على الفصائل في جنوب سورية وقوات سورية الديمقراطية التي يغلب عليها الطابع الكردي في الشمال الغربي.
لقد اختارت الإدارة الجديدة حتى الآن إجراء انتخابات مضبوطة لتشكيل برلمان جديد، ساعيةً في الوقت نفسه إلى توطيد سلطتها في المجالَين الاقتصادي والسياسي عن طريق تعيين أشخاص موالين للنظام ومقرّبين من الشرع في مناصب مهمة. ويعكس التركيز على السياسة الخارجية اعتقادًا مُفرِطًا في التفاؤل بأن السياسة الخارجية البراغماتية، والدعم الإقليمي، ورفع العقوبات كلّها عوامل قد تحقّق بمفردها التعافي الاقتصادي. وربما تريد حكومة الشرع إرساء معادلةٍ تمنح بموجبها هامشًا محدودًا من المشاركة السياسية مقابل الحصول على تعهّدات من الجهات الدولية بإنعاش اقتصاد البلاد. لكن ما أظهره لنا العام الماضي هو أن التقدّم في هذا الملفّ لا يزال مشروطًا بالتوصّل إلى اتفاقية أمنية مع إسرائيل التي تزداد تطرّفًا واندفاعًا، ما يشكّل عقبةً أخرى من بين عقبات كثيرة تعترض مسار القيادة السورية الحالية.
زها حسن | زميلة أولى في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
من الأمور التي كان كثرٌ من الناس يترقّبونها مع سقوط نظام الأسد المتحالف مع إيران هو كيف ستتعامل الحكومة الجديدة، التي يرأسها عضو سابق في تنظيم القاعدة وتحظى حاليًا بدعم المملكة العربية السعودية، مع إسرائيل. فهل ستقبل دمشق بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بينما تواصل هذه الأخيرة احتلال مرتفعات الجولان السورية وشنّ حربٍ على غزة وصفها خبراء قانونيون، كما الأمم المتحدة، بأنها إبادة جماعية؟
نظرًا إلى رغبة إدارة ترامب الشديدة في توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية، وحاجة سورية إلى تخفيف وطأة العقوبات المفروضة عليها كي تتمكّن من الشروع في إعادة إعمار بلدٍ مزّقته الحرب، اعتقد البعض أن الظروف مهيّأةٌ لإبرام صفقة. لكنهم لم يأخذوا في الحسبان إلى أي حدٍّ قد تفضّل إسرائيل التمسّك بمكانتها التي ترسّخت حديثًا كقوة مهيمنة إقليميًا، والمضيّ قدمًا في مشاريعها التوسعية.
كذلك لم يؤخذ في الاعتبار على نحو كافٍ عاملان هما: عدم استعداد الرئيس السوري أحمد الشرع لتحدّي الرأي العام المحلي والإقليمي المعارض للتطبيع مع إسرائيل من دون انسحابها من الأراضي العربية؛ ولا براعة الشرع، بالشراكة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في توظيف نهج ترامب القائم على الصفقات وسياسة “أميركا أولًا” بما يتناسب مع أهدافه. وخلال لقاءٍ في البيت الأبيض مؤخرًا، أكّد ترامب أنه رفع العقوبات عن سورية بناءً على طلب ولي العهد السعودي. تُعدّ السعودية لاعبًا أساسيًا في مستقبل سورية – ومستقبل فلسطين – وفي الوقت الحالي، من غير المرجّح أن توظّف أي رصيد سياسي تمتلكه لدى إدارة ترامب من أجل توسيع نطاق الاتفاقات الإبراهيمية. إذًا، على الرغم من التغيُّرات الكثيرة التي أحدثها سقوط بشار الأسد في هذا الشأن، فإنّ الكثير من الأمور بقيت على حالها أيضًا.
عصام القيسي | محلّل أبحاث في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
لم يكن سقوط نظام بشار الأسد، بالنسبة إلى الكثيرين في لبنان، حدثًا خارجيًا بقدر ما كان نهاية تشابكٍ طويلٍ وقاتم. عندما دخلت الدبّابات السورية لبنان في العام 1976، بناءً على طلب الرئيس اللبناني المسيحي آنذاك، سليمان فرنجية، وضعت دمشق نفسها على مسارٍ جعلها سيّدًا ووسيطًا في البلاد. فحكمت لبنان من خلال حلفائها المحليين، وسحقت المعارضة، حتى إنها، كما يغيب عن أذهان كُثرٍ، ارتكبت مجزرة بحقّ عناصر من حزب الله في بيروت عندما تَصرّف هذا الأخير خارج إطار الترتيب السوري في العام 1987. كانت تلك المواجهة قصيرة الأمد، إذ سرعان ما توصلّت دمشق إلى تسوية دائمة مع طهران بشأن حزب الله. وبعد ثلاثة عقود، عقب اندلاع الانتفاضة السورية، انقلبت الهرمية في تلك العلاقة فعليًا، فأصبح حزب الله ركيزةً أساسيةً تسند نظام البعث في دمشق، بينما كشفت طريقة سقوط بشار الأسد، في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، عن مدى اكتمال هذه التبعية.
وقد بيّنت الحرب على لبنان في خريف العام 2024، حين دمّرت إسرائيل البنية التحتية العسكرية لحزب الله، مدى هشاشة مشروعه للحفاظ على حكم الأسد في سورية. فما إن أُرغِم الحزب على اتخاذ موقف دفاعي في الداخل، حتى انهارت بشكلٍ شبه فوري الدعامات التي كانت تسند نظام الأسد. عندئذٍ، أدركنا إلى أيّ مدى أصبحت الدولة السورية ترتكز على كتفَيّ ميليشيا لبنانية وُلِدَت من رحم فوضى الاحتلال السوري (والاحتلال الإسرائيلي) للبنان.
طوى سقوط نظام الأسد صفحةً من الهيمنة، إلا أنه لم يحلّ الترابط الذي تكرّرت مآسيه بين سورية ولبنان. في دمشق اليوم نظامٌ مُعادٍ لإيران قيد التشكّل، وقد ينتج في نهاية المطاف شبكات نفوذ جديدة داخل لبنان. لكن لحظة الارتياح تلك، التي حملت شعورًا صادقًا بالتحرّر، تقترن راهنًا بإحساسٍ قديمٍ بالقلق. فحدود لبنان مع سورية لا تزال على حالها، كما لا يزال على حاله احتمال أن يتمدّد نفوذ دمشق مجددًا إلى الخارج يومًا ما. ففي المشرق، نادرًا ما يستقرّ التاريخ على حال، بل يبقى مُعلّقًا ينتظر.
خضر خضّور | باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
يغفل تقييم سقوط نظام بشار الأسد والنهاية المُفترضة للصراع السوري عن حقيقة أساسية، مفادها أن تلك اللحظة فتحت الباب أمام مرحلةٍ أشدّ خطورةً في سورية بدلًا من طيّ صفحة الحرب. فما سبق كان مسارًا متعدّد الأبعاد، بدأ بثورةٍ سُحقت بعنف شديد، وتلاها حربٌ أهلية وبعدها حروب بالوكالة. ومع فرار الأسد، لم يعد ثمّة إطارٌ وطني سوري يشكّل مرجعيةً واحدة يجتمع تحتها السوريون، بل ساد فراغٌ سياسي مليءٌ بالتناقضات.
في خضمّ هذا الفراغ، نشأت ترتيبات انتقالية ضمن خريطة سورية مُفكّكة. ففي دمشق، تحكم سلطةٌ جديدة ذات طابعٍ إيديولوجي إسلامي واضح، مدعومةً من تركيا وقوى إقليمية. وفي الشمال، يبرز الوجود العسكري التركي والتحالفات مع الفصائل المحلية. وفي شرق البلاد وشمالها الشرقي، لا تزال قوات سورية الديمقراطية والقوى الكردية الأخرى تحتفظ بسلاحها وتدير مناطقها. أما في الجنوب، فقد ساهمت المخاوف الأمنية الإسرائيلية إلى حدٍّ كبير في تشكيل الديناميات العسكرية والسياسية، بينما تتأرجح المناطق الدرزية بين الخوف من الفوضى ومحاولات الحفاظ على قدرٍ من الحكم الذاتي المحلي. وفي الساحل السوري، تُلقي ذكرى مجازر آذار/مارس الماضي، وخسارة النفوذ السياسي، والشعور اليومي بانعدام الأمن، بظلالها على الطائفة العلوية. تأتي كلّ هذه التطوّرات ضمن حدودٍ دولية ثابتة، لكن في ظلّ غياب إطارٍ وطني جامع قادرٍ على ربط هذه الأجزاء المتناثرة بعضها ببعض أو تحديد آليات عملها معًا.
لا يقتصر التحدّي الذي تواجهه القيادة الانتقالية على استبدال النظام القديم بنظامٍ جديد، بل يتمحور في المقام الأول حول إعادة بناء حدٍّ أدنى من المساحة الوطنية المشتركة بين الطوائف والمجتمعات المحلية التي خرجت من أتون الحرب أكثر خوفًا من بعضها البعض، وأقلّ ثقةً بأيّ سلطة مركزية. وحتى يتحقّق ذلك، لا بدّ من اعتماد نهجٍ مختلف عمّا شهدناه حتى الآن إزاء الجماعات التي ترى نفسها خاسرة أو تشعر بأنها مهمّشة في مرحلة ما بعد الأسد. ولا بدّ أيضًا من التعامل مع هذه الجماعات بوصفها طرفًا في أيّ تسوية سياسية وفي تشكيل النظام الآتي، بدلًا من تصنيفها كمصدر تهديد أمني.
من دون تبنّي مثل هذا النهج، سيتحوّل سقوط الأسد على الأرجح من محطةٍ كان بالإمكان الاستفادة منها لإعادة بناء الدولة السورية على أُسس جديدة، إلى مجرّد مرحلةٍ أخرى من مراحل تفكُّك الدولة، حيث الوجوه قد تتغيّر، لكن منطق السيطرة والخوف سيستمرّ في تشكيل ملامح المشهد السياسي.
مروان المعشّر | نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
مرّ عامٌ على نجاح الثورة السورية في إطاحة النظام السوري السابق، الذي احتكر السلطة لصالح فئة واحدة على حساب سائر مكوّنات البلاد، وأساء معاملة الشعب السوري، وقتل مئات الآلاف منهم، وشرّد الملايين. لذا، تنفّس العالم بأسره الصعداء عند سقوط ذلك النظام القمعي.
مع ذلك، شكّلت إطاحة نظام بشار الأسد شرطًا ضروريًا، ولكن غير كافٍ، لإرساء الاستقرار والازدهار في سورية. وبينما جادل البعض بأنّ من السابق لأوانه أن يجري النظام الجديد، بقيادة أحمد الشرع، إصلاحاتٍ ديمقراطية شاملة قبل ضمان الاستقرار، ثمّة مسائل أساسية لا بدّ من معالجتها إذا ما أراد النظام الحالي بناء دولة مستقرّة وشاملة للجميع.
أولًا، لا بدّ من إطلاق عجلة إعادة إعمار سورية. وهذه العملية ستتطلّب ضخّ مئات مليارات الدولارات، لكن من المُستبعَد أن يأتي قدرٌ كبيرٌ من هذا المبلغ من الخارج. فالجزء الأكبر من إعادة الإعمار سيقع على عاتق القطاع الخاص السوري، الذي يُبدي تردّدًا لعدم ثقته في الإجراءات الاقتصادية الجديدة في البلاد. ثم إن العملية الاقتصادية يقودها اليوم أشقّاء الشرع، ويكتنفها الغموض.
ثانيًا، يجب أن يكون النظام أكثر شفافية. فلكي تتكلّل عملية إعادة الإعمار بالنجاح، على السلطات إنشاء نظامٍ قضائي مستقلّ، وسنّ قوانين تضمن الرقابة والمساءلة. إن صناديق الثروة السيادية المختلفة في سورية مثلًا تعوزها الشفافية، وتُدار بطريقة غير واضحة، وتفتقر إلى أيّ إطار تنظيمي.
ثالثًا، لا بدّ من الاتفاق على شكل الحكم في سورية، إذ ليس سرًّا أن معظم السوريين، بغضّ النظر عن طوائفهم، لا يريدون دولة إسلامية جهادية عقائدية، بل دولة مدنية ذات قوانين علمانية. وسترتبط عملية إعادة الإعمار والاستثمارات الكبيرة من القطاع الخاص، سواء من داخل سورية أو خارجها، ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الحكم في البلاد. فإذا حظي شكل الحكم بقبول جميع مكوّنات الشعب السوري، قد يُكتب له النجاح. أما إذا فرض طرفٌ إيديولوجي واحد شكل الحكم ونمط حياة الشعب السوري، فلن تتوافد الاستثمارات اللازمة.
من الضرورة بمكان إذًا معالجة هذه المسائل بشكلٍ مناسب لتعظيم فرص بناء مجتمعٍ تشاركي تعدّدي ينعم باستقرارٍ سياسي واقتصادي واجتماعي، بدلًا من نظام سلطوي وقمعي قائمٍ على عكس ذلك تمامًا.
كريم سجادبور | زميل أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
شكّل سقوط بشار الأسد تذكيرًا بعمق التغيير الذي يمكن أن يطرأ على المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط بمجرّد إزاحة فردٍ واحد. وأعاد التأكيد أيضًا على الخطر المزمن الذي يهدّد المنطقة نتيجة الارتكاز على شخصية رئيسة: فحين تقوم الأنظمة السياسية على أفراد لا على مؤسسات، يغدو أمن ورفاه شعوبٍ بأكملها مرهونًا بهواجس وطموحات قائدهم. فأولويات عائلة الأسد، لا أولويات البلاد، هي التي شكّلت معالم سياسة سورية واقتصادها وتحالفاتها الخارجية. وحين فرّ الأسد، تداعت أُسس الدولة معه.
هذا الوضع الهشّ نفسه يحيط بالرئيس السوري الحالي أحمد الشرع. فهو ليس مجرّد قائدٍ انتقالي، بل شخصية محورية باتت تعتمد عليها راهنًا تطوّرات إقليمية عدّة. وهذا وحده كفيلٌ بجعله رجلًا مراقَبًا عن كثب. فمساره لا يترك مجالًا يُذكر للحلول الوسطى. وخلال عامَين، من المُحتمل أن يكون مصيره إمّا الموت أو التحوّل إلى ديكتاتور.
هذا وشكّل سقوط الأسد انتكاسةً استراتيجيةً تاريخية لإيران، شملت خسارة حليفها العربي الموثوق الوحيد وقطع الجسر البرّي الذي كان يربطها بحزب الله اللبناني، الذي كان ذات يومٍ بمثابة جوهرة تاج ثورة العام 1979. صحيحٌ أن تأثير طهران قد تضاءل، إلّا أنه لم ينته. ولطالما تعزّز نفوذها الإقليمي في دولٍ ضعيفة أو مُنهارة، لذا يمكن أن نتوقّع أن يلجأ النظام الإيراني ووكلاؤه إلى كلّ الوسائل الممكنة، بما فيها الاغتيالات المُوجّهة، لإحباط جهود سورية ولبنان الرامية إلى بناء أنظمة مستقرة بعد تراجع الدور الإيراني.
الجدير بالذكر أن أقلّ من ربع حالات انهيار الأنظمة السلطوية، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، أفضت إلى بروز نظامٍ ديمقراطي، وأن احتمالات تحقيق الانتقال الديمقراطي كانت أقلّ حتى عندما أتى انهيار الحكومات السلطوية نتيجة تدخّل خارجي أو أعمال عنف. وما لم تنجح حكومات الشرق الأوسط في بناء مؤسساتٍ قويةٍ بما يكفي لتتمكّن من الصمود بعد رحيل قائدها، سيظلّ مستقبلها معلّقًا بمصير رجل واحد، ومن يأتي بعده.
يزيد صايغ | زميل أول في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
لم تصدر الحكومة الانتقالية في سورية بعد إطارًا واضحًا للسياسة الاقتصادية، ولم تُجرِ حتى مشاورات عامة بشأن عملية إعادة الإعمار. لقد قيل الكثير عن التزامها المُعلَن باقتصاد السوق الحرة، إلا أن ما يوحى به من قطيعةٍ مع الماضي الاشتراكي يعطي صورةً مضلّلةً أساسًا عن الاقتصاد في عهد بشار الأسد. فالتحرير الجزئي للاقتصاد، بدءًا من سبعينيات القرن الماضي في عهد والده حافظ، سمح بإحياء قطاع خاص حيويّ هيمَنَ على بعض القطاعات الاقتصادية، وشكّل 40 في المئة تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي بحلول منتصف التسعينيات. وقد ذهب بشار أبعد من ذلك بإطلاقه في العام 2005 ما سُمّي بـ“اقتصاد السوق الاجتماعي“، الذي وسّع نطاق التحرير الاقتصادي أكثر.
كانت المشكلة الحقيقية في اقتصاد حقبة الأسد أن التحرير الاقتصادي في ظلّ الحكم السلطوي أدّى إلى نشوء شبكات المحسوبية، حيث مُنح أفراد أسرة الأسد وأقاربهم، ومسؤولو حزب البعث الحاكم، وضبّاط الأجهزة الأمنية النافذة والمتغلغلة في كل مفاصل الدولة، أنفسهم امتيازات في الوصول إلى الأسواق، أو مارسوا سلوكًا استغلاليًا وافتراسيًا صارخًا. وقد أنتج اقتصاد الحرب، الذي نشأ خلال الصراع المسلح بين العامَين 2011 و2024، أشكالًا جديدة وأكثر عنفًا من الافتراسية والنهب، إلى درجة أن النظام عمَد دوريًا إلى ابتلاع أصول رجال أعمال مقرّبين منه لدعم موارده المتناقصة.
يتمثّل التحدّي الذي تواجهه الحكومة الانتقالية في إجراء إصلاحاتٍ تنهي كلًّا من إرث المحسوبية العائدة إلى حقبة الأسد، وإرث اقتصاد الحرب. إن توفير الأمن أمرٌ بالغ الأهمية، ولكن من المهمّ أيضًا إقامة مسارات موثوقة لصنع القرار، تكون قائمة على التشاور وشاملة الجميع، فضلًا عن إعادة تأهيل النظام القضائي لضمان إنفاذ العقود، وحماية حقوق الملكية، بموازاة معالجة المظالم السابقة والمصادرات القسرية. ولا يُعدّ ذلك ضروريًا لتحفيز إعادة مليارات الدولارات من رأس المال السوري المُرسَلة إلى الخارج فحسب، بل إنه أساسي أيضًا لتحرير القوى الإنتاجية على امتداد المجتمع السوري. فمن دون هذا النهج، قد ينطبع الاقتصاد مرة أخرى بالمضاربة العقارية، والتداول الداخلي والفساد، وأشكال المحسوبية الأخرى، وقد يصبح اللجوء إلى السلاح عاملًا حاسمًا في مراكمة الثروة وتوزيعها مجدّدًا.
أرميناك توكماجيان | باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
بعد مرور عامٍ على الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد، يشكّل استعراض العوامل الداخلية والخارجية التي شهدتها سورية إطارًا فعّالًا لفهم وضع البلاد الحالي، والتحوّلات التي طرأت عليها، والمسارات التي قد تسلكها في المستقبل. على الصعيد الخارجي، كانت وتيرة التغيير متسارعة على نحوٍ مُربك، وتجلّت من خلال التوافق شبه الكامل بين القوى العظمى على تجنُّب زعزعة استقرار سورية. فخرجت دمشق من عزلتها، وذلك إلى حدٍّ كبير بفضل قرار الرئيس دونالد ترامب تقديم الرئيس السوري أحمد الشرع في صورة رجل دولةٍ على الرغم من ماضيه الجهادي، ما أكسب حكمه شرعيةً دولية. علاوةً على ذلك، أحرزت سورية تقدُّمًا ملحوظًا على مسار رفع العقوبات الأميركية القاسية التي عزلت الاقتصاد السوري عن النظام المالي العالمي لفترة طويلة.
أما على الصعيد الداخلي، فتبدو الصورة قاتمةً للغاية، لأن الكثير من الوعود الكبرى التي قُطِعت بعد سقوط الأسد لم تتحقّق. صحيحٌ أن السلع والخدمات باتت متوافرة بشكل أكبر، إلّا أنها أصبحت أكثر كلفةً بكثير، فيما لا يزال التعافي الاقتصادي مُتعثّرًا على جبهات عدّة. كذلك، لا تزال البلاد مُفكّكة، في ظلّ ضعف سيطرة دمشق على الكثير من المناطق الحدودية السورية، ما يتجلّى بأوضح صوره في شمال شرق البلاد ومحافظة السويداء، كما على طول الساحل السوري، وفي المناطق الشمالية حيث تتمتّع تركيا ووكلاؤها بنفوذ كبير. على المستوى السياسي، تبدو خيبة الأمل أكثر حدّةً، إذ انطبعت القيادة الحالية بميولٍ سلطوية، وحكمٍ شخصاني، وتحالفات ضيّقة هيمنت على ما شكّل إلى حدٍّ كبير مرحلة انتقالية شكلية. وقد برزت خلافات إثنية ودينية وإيديولوجية جديدة إلى جانب الانقسامات القديمة، مُولّدةً مزيجًا خطيرًا أدّى إلى اندلاع موجات مفاجئة من العنف في المناطق الساحلية، كما في حمص والسويداء.
من المرجّح أن يستمرّ هذا التناقض بين الظروف الداخلية والخارجية خلال العام الثاني من حكم الشرع. وفيما لم تبرز أيّ مؤشّرات تحسُّن على صعيد الانفتاح السياسي، أو التماسك الاجتماعي، أو تفكّك الدولة، أو مستويات العنف، ثمّة عاملان مهمّان لا بدّ من متابعتهما عن كثب: الأوّل هو الاتفاق المُحتمل مع إسرائيل، والذي يُعدّ أساسيًا للحفاظ على استقرار البلاد؛ والثاني هو الرفع الكامل للعقوبات، ما يشكّل فرصةً لتحقيق تعافي الاقتصاد السوري.
فريدريك ويري | زميل أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
“لا نريد أن تُدمَّر ليبيا كما دُمِّرت سورية“، هذا ما قاله أحمد، وهو ضابطٌ سابق في الجيش السوري يبلغ من العمر 34 عامًا، كان انضمّ إلى صفوف المعارضة المناهضة للأسد قبل أن يصبح من المرتزقة المدعومين من تركيا. في كانون الثاني/يناير 2020، كنا جالسين في فيلا في مدينة طرابلس التي مزّقتها الحرب، مع مقاتلَين سوريَّين آخرَين. وعلى بُعد 50 مترًا منا تقريبًا كانت الصفوق الأمامية. وكان على الجانب المقابل منها مئاتٌ من عناصر الميليشيات التابعة لخليفة حفتر والساعية إلى إسقاط الحكومة المُعترف بها دوليًا. وكانت قوات حفتر مدعومة من مرتزقة روس تابعين لمجموعة فاغنر. وكان أحمد قد تفاخر قبل أيامٍ بأنه أقدم مع رفاقه على قتل قنّاص روسي وأخذوا بندقيته ذات القوة النارية العالية.
شكّل هؤلاء المقاتلون، الذين صقلتهم سنوات القتال ضدّ نظام الأسد، جزءًا من وحدة ضمّت آلاف السوريين الذين وصلوا إلى ليبيا خلال الشهر الفائت برفقة مستشارين عسكريين أتراك ومزوّدين بأسلحة متطوّرة. أرادت أنقرة من هذا التدخّل دعم الحكومة الليبية في وجه هجوم حفتر المدعوم من مجموعة فاغنر، لكنّ السوريين أخبروني بأنّ لديهم دافعا إضافيا، وهو قتل الروس انتقامًا للدعم الوحشي الذي قدّمته موسكو للأسد.
أشكّ في أنّ أيًا منهم قد تخيّل، عندما حمل السلاح لأول مرة في حمص والقصير وإدلب في العام 2011، أن ينتهي بهم المطاف في طرابلس، أو أن ينهار النظام بعد خمس سنوات من نشرهم هناك بهذا الشكل المفاجئ. منذ ذلك الحين، عاد بعضهم إلى سورية، وظلّ آخرون يعملون كمرتزقة في خدمة المصالح التركية، على الرغم من تذمّر كثرٍ بسبب انخفاض رواتبهم.
بعد مرور عامٍ على الإطاحة ببشار الأسد، لا تزال أصداء هذا الحدث تتردّد في شتّى أنحاء هذه الدولة الغنية بالنفط في شمال أفريقيا. فقد كانت موسكو تُعيد نشر قواتها في القواعد التي تقع شرقي ليبيا والتي تستخدمها كبوابة للتوسّع نحو أفريقيا. لكن تركيا كانت الفائز بلا منازع، إذ رسّخت انخراطها في الشؤون الاقتصادية والسياسية والعسكرية الليبية. والمفارقة أن أنقرة تتودّد راهنًا إلى حفتر ودائرة المقرّبين منه – أي الفصيل الليبي الذي تَواجهت معه في السابق – سعيًا إلى تحقيق طموحاتها في مجال النفط والغاز في شرق المتوسط.
في غضون ذلك، يواجه السوريون اليوم الكثير من المشاكل التي كابدها الليبيون على مدى عقدٍ من الزمن، بدءًا من تحدّي بناء مؤسساتٍ شاملةٍ للجميع على أنقاض النظام الدكتاتوري، وتسريح آلاف الشباب المسلّحين وإعادة دمجهم، مرورًا بإدارة الانقسامات المجتمعية وسياسات الهوية، وصولًا إلى إصلاح اقتصادٍ قوّضته سنواتٌ من المحسوبية. لكن الشرع أظهر لغاية الآن براغماتيةً كانت ليبيا تفتقر إليها بشدّة في مرحلة ما بعد الثورة.
مهى يحيَ | مديرة مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت
أحدث سقوط بشار الأسد تحوّلًا مُزلزِلًا، إذ أعاد تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وزعزع توازن القوى الإقليمي الذي كان سائدًا لعقود. كما أدّى فعليًا إلى قطع الممرّ البرّي الذي كان يربط إيران بلبنان عبر دمشق، ما أفقد حزب الله شريانًا لوجستيًا حيويًا، ودفع إسرائيل إلى إعادة تقييم حساباتها الأمنية، وغيّر طبيعة النفوذ التركي والروسي في سورية. كذلك، فتح سقوط الأسد الباب أمام دول الخليج للاضطلاع بنفوذ سياسي واقتصادي أكبر.
أما اليوم، فتقف سورية عند مفترق طرق، حيث تحاول التعامل مع التجاذبات القائمة بين إعادة تشكيل تحالفاتها الخارجية وإدارة تحدياتها الداخلية، وبين فرص إعادة الإعمار وتزايد مخاطر التشرذم. في الواقع، قدّمت سورية على مدى العام الماضي صورةً شديدة التناقض: فهي حظيت بقبولٍ دولي أكبر، لكن المشهد الداخلي بقي مشحونًا، في ظلّ تشديد السيطرة على مقاليد السلطة، وظهور مؤشّرات مقلقة على عودة المحسوبيات.
لقد سعت القيادة الجديدة برئاسة أحمد الشرع جاهدةً للعودة إلى الساحة الدولية، مُحقّقةً نجاحًا باهرًا على هذا الصعيد. فالترحيب الدولي بالقيادة الانتقالية، التي كان أعضاؤها مُدرَجين سابقًا على لوائح الإرهاب، كان بالفعل مفاجئًا في سرعته. كذلك، بدأ تخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على سورية في عهد الأسد، ومن المرجّح رفعها بالكامل قريبًا، فيما تبدو دول الخليج مهتمّةً بالاستثمار في سورية، والمشاركة في جهود إعادة إعمار البلاد.
لكن على الصعيد الداخلي، اتّسمت المرحلة الانتقالية بتركُّز السلطة على نحوٍ مقلق في يد الرئيس ودائرته الضيقة، وبتصاعد أعمال العنف الطائفية والعرقية. غداة حلّ برلمان حقبة الأسد وإلغاء الدستور السابق، استُبدلا بنظامٍ تشريعي مؤقّت جديد يسيطر عليه بصورة أساسية حلفاء الشرع وفصيله المسلّح السابق، هيئة تحرير الشام. كذلك، أنشأت الحكومة هيئات اقتصادية جديدة نافذة، من ضمنها المجلس الأعلى للتنمية الاقتصادية، برئاسة الشرع، وصندوق التنمية السوري، وهذه المؤسسات تتيح للرئاسة السورية إحكام سيطرتها على صناديق إعادة الإعمار وقرارات الاستثمار. في غضون ذلك، تحدّثت تقارير عن انخراط بعض الأوليغارشيين من عهد الأسد في مفاوضات خلف الكواليس مع النظام الجديد لضمان دور لهم في المرحلة المقبلة. لكن الأمر الأكثر إثارةً للقلق يبقى المجازر التي وقعت بحقّ كلٍّ من العلويين في المناطق الساحلية والدروز في السويداء على أيدي عناصر تابعين للحكومة، ما يضع البلاد أمام فصلٍ جديد من الانقسام المجتمعي والإقصاء القائم على الهوية.
باختصار، تشهد سورية الآن مرحلةً من التوازن المتناقض والهشّ، وما سيليها يُحدّد مسار المنطقة للسنوات المقبلة.

