إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
من الضروري تسليط الضوء على الحقيقة المُرّة التي يتجنب كثيرون الاعتراف بها: لبنان ليس فاشلاً بسبب نظامه أو صيغه أو دستوره، بل بسبب ثقافة سياسية مريضة وشخصية جماعية عاجزة عن التحرر من عباءة التبعية. تاريخياً، كان لبنان دائماً أرضَ عبورٍ ومَسرحاً للتدخلات الخارجية التي تركت بصمتها العميقة على النفسية اللبنانية، حيث أصبحت التبعية أمراً طبيعياً، والتكيف مع الأمر الواقع فضيلة.
لكن هذه الثقافة ليست عقلية بلدٍ مستعمَر تقليدي. على العكس، المجتمعات اللبنانية أظهرت دائماً مقاومة عنيدة لأي إخضاع كامل. كل طائفة لديها “نرجسية الفروقات الصغيرة”، وكل جماعة مستعدة للموت دفاعاً عن حدودها القبَلية. أما الفردانية المتطرفة، النابعة من تاريخ طويل من الميل إلى التجارة والانغماس في الممارسات “المركانتيلية”، والتي عززتها لاحقاً الليبرالية الاقتصادية المفرطة، فقد جعلت اللبنانيين بعيدين عن الصورة التقليدية للشعوب المقهورة أو الخاضعة كلياً. لكنها، في الوقت ذاته، زرعت فيهم نزعةً لرفضِ أي تنظيمٍ جماعي حقيقي، واستبداله بمنطق الصفقات الفردية والانتماءات الضيقة التي تحول دون بناء مشروع وطني جامع.
ومع ذلك، هناك عجز صارخ عن الوصول إلى مرحلة شعب ناضج، شعب مسؤول، شعب يعرف كيف يدير شؤونه بنفسه من دون وصاية خارجية. ربما كانت اللحظة الوحيدة التي حملت بذور التغيير الحقيقي هي بعد استقلال 1943. العدوى الفرنسية، بسلبياتها وإيجابياتها، حفّزت نخبة متعلمة وواعية حاولت، لفترة قصيرة، بناء مؤسسات مدنية على أنقاض الزعامات القبلية. لكن تلك اللحظة لم تدُم. التدخلات الخارجية المتكررة، الحروب الطائفية، الاحتلالات المختلفة – كلها أعادت لبنان إلى نقطة الصفر. ثقافة الخضوع الطوعي ازدادت ترسخاً، مقرونة بازدواجية عدوانية – سلبية: بين رغبة جامحة في الإشباع الآني وحُلمٌ وهمي بالحرية. كل شيء أصبح مؤجلاً، في انتظار “المحرِّر” القادم أو الراعي الدولي الجديد.
ما يزيد الطين بلّة هو الروايات الانتقائية والمزيّفة التي تمجّد أحداثاً مثل “عامية أنطلياس”، أو سجن راشيا، أو “المقاومات البطولية” ضد الاحتلالات. لا أحد ينكر أهمية هذه الديناميات، لكن يجب أن نعترف بالحقيقة: في معظم الحالات، كانت هذه البطولات طائفية بامتياز، مرتبطة بجماعات أو بشخصيات فئوية محددة، لا بالمجتمع ككل. لبنان لم يعرف أبداً بطولة جماعية، بطولة وطنية طويلة الأمد تتجاوز العصبيات. وهذا هو لبّ المشكلة.
المأزق الحقيقي يكمن في العقلية التي تحكم اختيار القادة. في لبنان، لا يتم اختيار القادة بناءً على مؤهلاتهم أو رؤيتهم لبناء الدولة. على العكس، يتم اختيارهم بناءً على قدرتهم على حماية العصبية، على تأمين الطائفة، على تهديد الآخرين بأن القبيلة مستعدة للحرب في أي لحظة. هذه العقلية هي التي سمحت، على مدى أكثر من نصف قرن، بصعود شخصيات “رادعة”، ليس لأنها قادرة على بناء الدولة، بل لأنها قادرة على إثارة الخوف.
لقد حان الوقت للقطع مع هذه الثقافة القبلية العُنفية في ماهيتها، مع هذه الغريزة الطائفية التي تحكم كل شيء. لبنان لن يقوم إلا عندما نتخلى عن عقلية “الخوف من الآخر”، عن الحاجة النرجِسية المستمرة إلى الطمأنينة والاعتراف. هذا البلد لن يتغير إلا عندما نبدأ في بناء ثقافة الثقة والمشاركة – ثقافة الأحلام المشتركة، والآلام المشتركة، والمصير المشترك. العيش المشترك ليس شعاراً؛ إنه الخيار الوحيد للبقاء.
لكن، لكي يتحقق هذا التغيير، نحتاج إلى قادةٍ مختلفين، قادةٍ لا يُختارون على أساس القوة القبلية أو “الكاريزما” الطائفية، بل على أساس القدرة على تجاوز هذه الانقسامات. والأهم من ذلك، نحتاج إلى شعب يفهم أن المشكلة ليست في الخارج فقط، بل فينا. كما يقول القول المأثور: “لا نحصل فقط على القادة الذين نستحقهم، بل نحن مسؤولون عنهم. وإذا كان لبنان عصياً على الإصلاح ومفتوحاً لكل رياح التدخل، فاللوم علينا.”
بضع ملاحظات ردّاُ على مقال ممتاز: عدا انتفاضة الإستقلال في 1943، كانت انتفاضة 14 آذار 2005« موجة أعماق » (يعني « تسونامي ») عبّرت عن « غريزة لبنانية ». غداة 8 آذار اعتبر إليوت أبرامز » في البيت الأبيض أن « كل شيء انتهى، وربح حزب الله ». أي أن 14 آذار 2005 لم يكن بإيعاز أميركي. كما لا يصح تفسيرٌ سمعته من شبه مثقف بأن « آل الحريري دفعوا كلفة بوسطات نقلت العكاريين إلى بيروت ».ثانياً، تعرَض العالم، والشرق الأوسط ولبنان، منذ الستينات لموجة هجينة مما أطلقت عليه تسميات « الإشتراكية » و »اليسار الجديد » وحركات « الفدائيين » والإيديولوجيات الماوية خصوصاً، التي بدت في حينه وكأنها تعبير عن « حداثة » (« صُنِعت في باريس »)، وكانت كلها ضد فكرة « الدولة »، أي… قراءة المزيد ..