كِلاهُما ينادي صاحِبَهُ بالنَبرةِ نفسها

0
إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...

نجم اقتران اسم محمود درويش بسميح القاسم، والعكس صحيح، في التاريخ الثقافي والسياسي للفلسطينيين، وفي الثقافة العربية، عن أسباب وثيقة الصلة بالجغرافيا، والسياسة، والتاريخ. فقد نشأ كلاهما في الجليل، الذي وقع ضمن حدود الدولة الإسرائيلية بعد قيامها في العام 1948. وأضفى وجودهما، معاً، كشاهدين على تاريخ مضاد، وانخراطهما، معاً، في الكفاح الوطني، وعثورهما، معاً، في الشعر على وسيلة للمقاومة، على صداقة نشأت بينهما في سن مبكّرة – وامتدت حتى اليوم الأخير لكليهما على الأرض – دلالات فريدة، وجودية، ونادرة.

 

 

وبهذا المعنى، كان كلاهما مكوّناً عضوياً في هوية صاحبه. فعلى الرغم مما فرض تبدّل الأماكن والأزمنة من تجارب شخصية متباينة، إضافة إلى ذائقة شعرية، وخيارات جمالية، مختلفة، إلا أن أحدهما لم يكن قادراً على تصوّر وجوده، بالمعنى الشخصي والشعري، في آن، إلا كشطر لبرتقاله، يمثل صاحبه شطرها الثاني، كما جاء في كتاب رسائل مُتبادلة بين الصديقين في أوائل ثمانينيات القرن الماضي.

ومن حُسن الحظ انني اطلعت، عن كثب، على خصوصية، وحساسية، التفاعل بين محمود درويش وسميح القاسم، على مدار قرابة عقدين من الزمن، في مناسبات خاصة وعامة، وقد كان القاسم المشترك في تلك المناسبات إحساس بالألفة، لا نحتاج إلى جهد خاص لاكتشاف وجوده كلما وجدنا أنفسنا بين أفراد العائلة الواحدة.

ومن المفارقات المؤلمة، حقاً، أنني شهدت اللحظة، التي ودّع فيها سميح القاسم صاحبه، يوم جنازة الثاني في رام الله في صيف العام 2008. وضعوا يومها النعش، الذي وقف وراءه الرئيس محمود عبّاس، وأعضاء الحكومة، على منصة متوسطة الارتفاع، في قاعة غصّت بالحاضرين في “المقاطعة” (المقر الرسمي للسلطة الفلسطينية في رام الله)، وجلست أم محمود على كرسي متحرك جوار النعش.

وعندما دخل سميح، راكضاً، ودامع العينين، توقف أمام النعش، حدّق كمن لا يصدّق ما يرى، وصرخ بصوت بدا وكأنه يخلع القلب: “انهض أيها المتماوت”. كرر فعل الأمر “انهض” بما لم يعد كلاماً، بل صار نحيباً يقطع نياط القلب، ثم، بمزيج من الأمر، والأسى، والاستعطاف، ونبرة خافتة، سرعان ما تعالت، نادى صاحبه: انهض، أنا أخوك سميح”.
ولكن ماذا يحدث لو قلبنا المشهد، وكان محمود درويش المُنادي يومها، ولم يكن المُنادَى؟ سنسمع النداء نفسه، على الأرجح، بمفردات مختلفة، ربما، ولكن من المؤكد أننا سنسمع صاحباً ينادي صاحبه بمزيج من الأمر، والأسى، والاستعطاف، وبالنبرة الخافتة نفسها، وبما يعني:

“انهض، أنا أخوك محمود”.

اترك رد

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading