لن أردّ على جميع الافتئاتات التي ساقها بحقي السيد العفيف الأخضر في الحلقة الأخيرة من سيرته الذاتية التي نشرت في موقع الحوار المتمدن وموقع العلمانيين العرب وموقع حقائق وغيرها من المواقع.
حسبي أن أتوقف عند نقاط بعينها فيها محاولة مساس متعمَّد بسمعتي كمثقف و بأخلاقيتي كإنسان.ولأبدأ من البداية:
1- لقد ذكر العفيف بالحرف الواحد أن “جورج طرابيشي قد قرر ترك عمله في وزارة الاعلام السورية، قسم الرقابة، لينتقل إلى دراسات عربية في بيروت لمنعي من الكتابة فيها”.
وتوضيحاً لهذه الدسيسة أقول:
واضح من هذا النص أن هناك تلميحاً ضمنياً، من خلال ربط اسمي بالرقابة، إلى أنني كنت عميلاً للنظام السوري وأن هذا النظام لم يرسلني إلى بيروت إلا لهدف وحيد أوحد وهو منع السيد العفيف الأخضر من الكتابة في مجلة “دراسات عربية”.
لقد كنت بالفعل قد انتدبت من وزارة التربية إلى وزارة الاعلام عام 1965 لشغل منصب مدير إذاعة دمشق. ولكني لم ألبث في هذا المنصب سوى أشهر معدودة قبل أن أقدِّم استقالتي منه لظروف سياسية وإيديولوجية لا يتسع المجال للخوض فيها.
وعلى إثر استقالتي صدر قرار بنقلي إلى وزارة الاعلام، قسم الرقابة، وبالتحديد قسم الرقابة باللغة الفرنسية، وهو قسم لم يكن له من عمل فعلي نظراً إلى عدم وجود منشورات باللغة الفرنسية يومئذٍ في سوريا. و بما أنني كنت قدمت في الوقت نفسه استقالتي من حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كنت عضواً في مكتبه الثقافي التابع للقيادتين القطرية والقومية احتجاجاً على سياسة البعث، والتزاماً مني بانتمائي الجديد إلى حزب العمال العربي الثوري الذي كنت ساهمت في حينه في إنشائه مع عدد من الرفاق والبعثيين السابقين، وفي مقدمتهم الصديق الراحل ياسين الحافظ، فإنني لم أمضِ في وزارة الإعلام سوى أشهر معدودة قبل أن يصدر أمر باعتقالي و بالزجّ بي في السجن في زنزانة منفردة في معتقل الشيخ حسن الذي لم أخرج منه إلا في نهاية عام 1966 بفضل تدخل الصديق الراحل الباهي محمد. وعلى إثر إطلاق سراحي صدر قرار بإعادتي إلى وزارة التربية و إبعادي إلى حلب و فصلي بالتالي عن زوجتي- و ابنتي (الطفلة )- التي رفضت السلطة في وقتها نقلها إلى حلب.
وبعد قضاء بضع سنين في التعليم في حلب و نتيجة للمضايقات التي كنت أتعرَّض لها من رجال المباحث، اتخذت قراراً بالهجرة سراً إلى لبنان، وكان ذلك في شهر أيلول / سبتمبر عام 1972، أي بعد ست سنوات من تركي قسم الرقابة في مديرية الإعلام في دمشق، لأتولى في بيروت رئاسة تحرير مجلة دراسات عربية لمدة 12 سنة. وبعدئذ، وتحت ضغط الحرب الأهلية اللبنانية، اتخذت قراراً بالهجرة مع أسرتي إلى فرنسا حيث لا أزال أقيم منذ عام 1984، وحيث ربطتني بالسيد العفيف الأخضر نفسه، بعد نسيان خلافات الماضي الإيديولوجية، صلة صداقة دامت عشر سنوات قبل أن يقطع أواصرها هو نفسه فجأة في الحلقة الأخيرة من سيرته الذاتية بما وجّهه إليّ من تهم تكاد لا تقع تحت حصر كمثقف مزوِّر وربما عميل.
2- يزعم العفيف أنني، في فترة رئاستي لمجلة دراسات عربية، كنت أمارس الرقابةً فأتدخل على المقالات المنشورة قبل نشرها، فإما أن أمنع نشرها أو أدخِل عليها إضافات أو حذوفات، أي بكلمة واحدة تزويرات، بحيث تتلاءم مع انتمائي الايديولوجي اللينيني ” الستاليني ” المزعوم ومنزعي القومي العربي. ويضرب على ذلك مثالين:
أ- أني مارست رقابتي الإلغائية على مقال له بعنوان “حرب الخيانة الوطنية” حذّر فيه من وقوع حرب تشرين/ أكتوبر 1973 قبل وقوعها بعدة أشهر.
ب- وأني مارست رقابتي التدخُّلية على مقال مترجم في نقد كتاب لينين “ما العمل؟” وأني استعملت مقص الرقابة لأحذف منه ما يتعارض مع إيديولوجيتي. ويعترف هو نفسه بأنه أرسل صديقاً له يدعى محمد كبة ليتوعدني بالردّ بالعنف الثوري البروليتاري فيما إذا عدت ثانية إلى استعمال مقص الرقابة أو التدخل في النصوص.
والواقع أني لا أنكر أنني، كرئيس تحرير لمجلة “دراسات عربية”، كنت أمارس، مثلي مثل أي رئيس تحرير، نوعاً من الرقابة، وتحديداً من الرقابة ما يحفظ سمعة المجلة كمجلة فكرية مستقلة وذات توجه قومي عربي ويساري وعلماني. ولكن هذه الرقابة ما كانت تتجاوز رفض النشر إذا كانت المادة المطلوب نشرها ذات توجه قطري أو يميني أو طائفي.أما أن أتدخل على المادة لأحوّلها بالزيادة أو بالنقصان (أي بالتزوير) إلى مادة صالحة للنشر فهذا ما لم أفعله قط وما كان يأباه ضميري وشرفي ككاتب وكإنسان أن يفعله. ولست أنكر بعد ذلك أني رفضت النشر للعفيف لمرة واحدة يتيمة وذلك عندما أرسل إلى دراسات عربية بياناً حزبياً أو شبه حزبي ضمَّنه شرحاً لمبادئ الحركة الإيديولوجية التي كان قد أسسها تحت اسم ” سلطة المجالس العمالية “. وقد أوضحت له ولبشير الداعوق في حينه أن المجلة ليست هي المجال لنشر المقالات الحزبية بغضّ النظر عن طبيعة هذه البيانات وطبيعة الحركة الحزبية التي تقف وراءها. وتداركاً لـ”زعل ” العفيف الأخضر وترضية له وافق بشير الداعوق على نشر البيان في كراس خاص صدر عن دار الطليعة تحت عنوان “سلطة المجالس العمالية”.
وبالرغم مما يدعيه العفيف الأخضر فلست أنا من منع نشر مقاله عن “حرب الخيانة الوطنية” وإنما الذي اتخذ القرار بعدم النشر بشير الداعوق نفسه بالنظر إلى الموقف ” السلمي ” للعفيف من إسرائيل ومعارضته “الكفاح المسلح ضدها” ودعوته إلى عقد الصلح معها وتحاشي الحرب وتوفير حياة الجنود العرب والاسرائليين على حد سواء، وهو الذي المقال الذي قال بنفسه إنه كتبه قبل تسعة أشهر من نشوب حرب تشرين/ أكتوبر. أما لماذا لم يمرّ المقال على “رقابتي” فذلك بكل بساطة لأنني كنت يومئذ في المستشفى بعد أن أصبت بذبحة صدرية شبه قاتلة ألزمتني المستشفى ثم البيت لمدة ثلاثة أشهر. ولكن العفيف توهَم أنني أنا الذي منع نشر المقال ولهذا بالتحديد أرسل إلى مكتب دار الطليعة صديقه محمد كبة ليبلغني بأنني إذا أصررت على موقفي الرافض فإني سأتلقى الرد المناسب: أي العنف البروليتاري الثوري على حدّ تعبير العفيف نفسه. وبالفعل، وبعد نحو ثلاثة أشهر من غيابي عن المكتب، فوجئت في اليوم الأول أو الثاني لعودتي إليه بدخول شاب أسمر الوجه عريض المنكبين بادر يمسكني من كتفي ويرفع قبضته في وجهي مهدداً بالضرب وقائلاً بالحرف الواحد: هكذا سيكون الرد فيما إذا أصررت على موقفك من كتابات العفيف. ولحسن الحظ أن الآنسة نجوى، مصححة منشورات الدار كما يذكر العفيف نفسه، كانت تقاسمني المكتب، فتدخلت للحال و قالت للشاب: عيب ترفع يدك على الأستاذ جورج وهو خارج لتوه من المستشفى.
ولقد كان بودي أن أطلب شهادتها لولا أنها قضت في ريعان الشباب بداء السرطان. ولكنها نقلت على كل حال ما حدث إلى غادة السمان، الكاتبة الصديقة المعروفة وزوجة بشير الداعوق. فما كان منها إلا أن أرسلت إلى العفيف من يبلغه أن اليد التي قد تُرفع عليَّ ستُكسر. وما دامت غادة السمان حية ترزق فلها إذا شاءت أن تشهد.أما محمد كبة نفسه فما كنت لأسمِّيه لولا أن يكون العفيف نفسه قد سمّاه، وذلك احتراماً مني لذكراه بالرغم من كل شيء: إذ أنه قضى بعد سنتين ونيف وهو يقاتل في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية. ويوم التقيت بالعفيف في آخر لقاء معه في ربيع 2013 برفقة الزميلين محمد الهوني و عزيز العظمة وعُدْنا بعد جلستنا المشتركة في المطعم إلى إحياء ذكريات بيروت فوجئت بأنه لم يكن يعلم بمقتل محمد كبة. ولما قلت له: لماذا أرسلته ليضربني نفى بشدة وقال: لم أرسله ليضربك، بل فقط لينذرك بأن الرد سيكون بالعنف البروليتاري الثوري. فكان جوابي: يبدو أنه أعطى لهذا العنف تفسيره المادي الوحيد الممكن: وهو اللكم بقبضة اليد.
إني آسف للدخول في مثل هذه التفاصيل الشبيهة بحكايا قبضايات الأحياء الشعبية. ولكن لم يكن في اليد من حيلة بعد أن عرض لها العفيف بتفصيل لا مستزاد عليه في خاتمة بيان اتهامه ضدي.
تبقى مسألة واحدة جديرة بأن نتوقف عندها لا كدعاة للعنف البروليتاري أو غير البروليتاري، بل كمثقفين ليس لنا من سلاح آخر سوى القلم.فالعفيف نفسه هو من يحدد مضمون المقال الذي لم يوافق بشير الداعوق – لا أنا – على نشره في دراسات عربية والذي عنونه باسم ” حرب الخيانة الوطنية ” بأنه كان ” تحذيراً من عواقب هذه الحرب قبل وقوعها، طالما أنها حرب للتفاوض مع إسرائيل.فلماذا لا تدخل الأنظمة العربية المعنية في مفاوضات معها من دون تضحية بعشرات الآلاف من الجنود العرب والإسرائليين؟ مصر وحدها خسرت في حرب أكتوبر 1973 أكثر من 15 ألف جندي قتيل”.
أعود وأكرر أني شخصياً لم أراقب هذا المقال ولم أقرأه أصلاً حتى أراقبه.ولكني أفهم أن يكون بشير الداعوق لم يوافق على نشره وهو المقال الذي يسمي الحرب التي كان كل العرب يطلبونها يومئذ باسم “حرب الخيانة الوطنية “. والأهم من ذلك أن يكون العفيف أبدى في ذلك المقال حرصه على توفير حياة الجنود الاسرائليين بالتساوي تماماً مع الجنود العرب، بعد أن كان هؤلاء الجنود الاسرائيليون هم أنفسهم الذين قتلوا عشرات الآلاف من الجنود العرب في الحرب التي بادرت إسرائيل إلى شنها في حزيران/ يونيو 1967. وعلى أي حال قد يكون العفيف في حينه أبعد رؤية لمسارات الصراع العربي- الإسرائيلي. ولكن نزعته السلمية تجاه الدولة التي لم يكن قد مرّ ست سنوات على احتلالها الضفة الغربية وسيناء والجولان ما كان يمكن أن تلقى قبولاً حتى لدى الطليعة المثقفة وكم بالأحرى لدى الرقابات العربية التي كانت ستمنع المجلة من التوزيع في أي قطر عربي.
أقول إني أفهم تماماً أن يكون بشير الداعوق رفض نشر المقال في الظروف النفسية والإيديولوجية التي كانت لا تزال سائدة في العالم العربي بعد هزيمة حزيران 1967. ولكن ما لم أفهمه على الإطلاق هو موقف العفيف نفسه في زمن لاحق. فيوم اتخذ الرئيس بوش قراره عام 2003 بغزو العراق لم يتردد العفيف في إعلان تأييده وحماسته لهذه الحرب. ومع علمه الأكيد بأنها ستكلف العراقيين عشرات وعشرات الآلاف من الضحايا فقد ظل يعرب بحماسة عن حماسته للغزو الأميركي. وقد كان ذلك موضوع سجال يومي بيني و بينه على الهاتف على مدى أسابيع. فهو كان يعتقد اعتقاداً راسخاً، بل أكاد أقول هذائياً، بأن الغزو الأميركي حتى ولو كلَّف مئة ألف قتيل من العراقيين سيُحدِث انقلاباً تاريخياً في التاريخ العربي الحديث، إذ من تحت أنقاض الغزو الأمريكي سيولد عراق جديد وسيحتل بالتالي هذا العراق مكانه في التاريخ العربي بوصفه “يابان العرب”. ولست أدري إن تكن قناعة العفيف قد تغيَّرت، لا بعد أن ارتفعت كلفة الحرب العراقية إلى نحو مئتي ألف قتيل – وهي لا تزال في ارتفاع يومي – فحسب، بل أيضاً بقدر ما ثبت أن “يابان العرب” لم يتمخض في نهاية المطاف إلا عن حرب طائفية ارتدَّت بالعراق نحو القرون الوسطى وجعلت منه – أو كادت – “أفغانستان العرب”.
3- يتهمني العفيف بأني أمارس عمليات تزوير في ترجماتي ويضرب على ذلك مثالاً بترجمتي لكتاب سيغموند فرويد : موسى و التوحيد. فيقول بالحرف الواحد : ” ترجم طرابيشي كتاب فرويد موسى والتوحيد المؤسَّس على نظرية فرويد الشهيرة “عودة المكبوت”. التثليث المسيحي كبت الوحدانية اليهودية فكان الإسلام عودة للمكبوت التوحيدي اليهودي. قال لي :لم أترجم صفحة المكبوت بطلب من الداعوق “.ثم يضيف القول: “ومما يجعلني أشك في رواية الطرابيشي أنه أقدم أيضاً على تزويرٍ استفزازيٍّ. استعرض فرويد” الثورة الجنسية السوفييتية” بسلبية، لكن ذلك لم يرق لطرابيشي فحوّلها إلى نقيضها : مديح طولاً وعرضاً. ولكان قال أيضاً : أرغم الداعوق الطرابيشي على تزويرها”.
وبادئ ذي بدء، لأعترف بأن ثمة فقرة تقع في نحو مئة كلمة ومدارها عن تأسيس الديانة الإسلامية قد جرى بالفعل حذفها من الطبعة الأولى لترجمتي لكتاب موسى والتوحيد.ولكن الأمر بحذف هذه الفقرة قد صدر عن صاحب دار الطليعة ومديرها الفكري الراحل بشير الداعوق، وقد أطلعني في حينه على قراره هذا مبرراً ضرورة حذف الفقرة المشار إليها باتقاء شر الرقابة اللبنانية أولاً ثم العراقية.
فالرقابة اللبنانية كانت ” عينها ” – كما يقال – على دار الطليعة منذ معركة كتاب نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم، وكانت في حينه قد رفعت دعوة قضائية على المؤلف والناشر.
وبالتالي كان من الممكن أن ترفع دعوى جديدة ضد الدار بتهمة الإساءة إلى الإسلام.أما الرقابة العراقية فكانت في تقدير بشير الداعوق ستمنع دخول الكتاب إلى العراق في حال تنبهها لمضمون تلك الفقرة. والحال أن العراق كانت السوق الرئيسية يومئذ لكتب دار الطليعة. وكان كل كتاب تطبعه الدار تصدِّر منه إلى العراق ما بين ألف إلى ألف وخمسمئة نسخة. ولكن وفاءً لاستقامة الداعوق الأخلاقية أذكر أنه لم يصدر أمره ذاك للمطبعة إلا بعد أن استشارني و أخذ موافقتي.
ولقد فهمت في حينه تماماً موقف بشير الداعوق، إذ إن تمرير الكتاب بجملته وبأطروحته الخطيرة عن دور جريمة قتل الأب (موسى ) و الكفارة عنها في تأسيس الديانة اليهودية والديانة المسيحية الوارثة لها يبقى أهم من حذف فقرة واحدة تتعلق بالإسلام الذي يعترف فرويد نفسه في الفقرة المشار إليها بأن معلوماته بالظروف التاريخية لنشأته محدودة للغاية، وإن كانت تبيح له أن يقول “إن تأسيس ديانة محمد يبدو لي تكراراً مختصراً للديانة اليهودية”.
ولكن بعد نفاذ الطبعة الأولى وعندما طلب مني الداعوق أن أراجع الكتاب و أتدارك بعض الأخطاء الطباعية استعداداً للطبعة الثانية، وذلك في ربيع عام 1977، ناقشته في أمر الفقرة المحذوفة وطلبت إعادة إدراجها في النص العربي. فلم يبدِ هذه المرة اعتراضاً بعد أن لفتُّ نظره إلى أن الرقيب اللبناني أو العراقي على حدّ سواء لن يخطر له أن يقارن بين الطبعيتين، وأنه ما دام أعطى الموافقة على الطبعة الأولى فلن تصطدم الطبعة الثانية بأية عقبة رقابية. وهكذا كان.
وقد صدرت الطبعة الثانية من موسى والتوحيد في آب/أغسطس عام 1977 ثم تلتها طبعة ثالثة ورابعة وخامسة دون أن تثير الفقرة المعاد إدراجها أي إشكال.
ولذلك وعندما يقول العفيف الأخضر إن تزوير كتاب موسى والتوحيد “جريمة مستمرة طوال 44 عاماً وحتى الآن”، فليس لي من ردّ سوى أن أحيل القارئ إلى أي طبعة من الطبعات الأربع التالية للطبعة الأولى ليلاحظ أن الفقرة عن تأسيس ديانة محمد تحتل مكانها في الصفحة 128 من موسى والتوحيد وأنه إن يكن ثمة من تزوير فهو في كلام العفيف نفسه عن استمرار جريمة التزوير ” حتى الآن ” أي حتى يومنا هذا.
والواقع أنا أشكّ في أن يكون العفيف اطلع على كتاب موسى و التوحيد سواء في طبعته الفرنسية أم في طبعته العربية الأولى أم في طبعاته الأربع التالية. وما ذلك فقط لأنه ما كان ليتحدث في هذه الحال عن “استمرار جريمة التزوير”، بل لأنه ما كان أضاف قوله : ” إن الطرابيشي أقدم أيضاً على تزوير استفزازي: فقد استعرض فرويد ” الثورة الجنسية السوفييتية” بسلبية، لكن ذلك لم يرق لطرابيشي فحوّلها إلى نقيضها: إلى مديحٍ طولاً و عرضاً”. فالواقع أن فرويد لم يتحدث قط في موسى والتوحيد،ولا في أي نص آخر له، عن ” الثورة الجنسية السوفييتية” لا بسلبية ولا بإيجابية. ولو كان العفيف قرأ الكتاب فعلاً أو قرأ فرويد في أي كتاب آخر لما كان كتب ما كتبه. فتعبير الثورة الجنسية صاغه للمرة الأولى فلهلم رايش في كتابه الثورة الجنسية الذي كتب معظم مقالاته في الثلاثينات من القرن الماضي وبعد خلافه مع فرويد. وهو لم يصف أصلاً هذه الثورة الجنسية بأنها ” سوفييتية ” وما كان ليصفها كذلك – رغم انتمائه في تلك الحقبةإلى الماركسية – وذلك لأن السياسة الجنسية السوفييتية كانت أبعد ما تكون عن ” الثورية “، هذا إن لم يصح وصفها بأنها محافظة. وقد كافأته السلطات السوفييتية على كل حال بحرق كتبه.
أما عندما يضيف العفيف قوله : إن السلبية التي تحدث بها فرويد عن الثورة الجنسية السوفييتية ” لم ترق لطرابيشي فحوّلها إلى نقيضها : إلى مديحٍ طولاً و عرضاً ” فإني أتحداه أن يأتي بشاهد واحد في كل ترجماتي وكتاباتي أشيد فيه بالسياسة الجنسية السوفييتية مدحاً “طولاً وعرضاً”.
وهنا على كل حال لا بد من إشارة. ففرويد بدأ بكتابة موسى والتوحيد في مطلع عام 1938 وكانت وفاته في أيلول/سبتمبر 1939. وفي حينه لم يكن للتجربة السوفييتية من وجه آخر سوى وجهها الستاليني.ومع أني كنت يوم ترجمت موسى والتوحيد في مطلع عام 1976 لا أزال أنتمي، كالكثيرين من أبناء جيلي، إلى الماركسية، ولكن ماركسيتي كانت أساساً وجهراً مناوئة للستالينية. ولهذا حين أقدمت على ترجمة ما ترجمته من نصوص ماركسية، فإني لم أترجم إلا ما كان منها مضاداً للستالينية، وهذا ما جعلني مثلاً أترجم تروتسكي نفسه(وقد كنت أول من تجرأ على ترجمة نص له إلى العربية) و كتابات لماركس ولينين نفسهما كانت مقموعة في العهد الستاليني، فضلاً عن ترجماتي للمدرسة الفرويدية الماركسية المعادية للستالينية من أمثال ولهلم رايش و هربرت ماركوز، فضلاً عن جان بول سارتر الذي كان أول من أخذ بيدي إلى طبعة غير ستالينية من الماركسية كما أوضحت ذلك في كتابي الأول الصادر عام 1964 بعنوان سارتر والماركسية.
وعلى أي حال، إن التلخيص الذي يقدمه العفيف عن كتاب موسى والتوحيد يدل إما على أنه لم يفهم النظرية الرئيسية التي بنى عليها فرويد فهمه للديانة اليهودية، وإما على أنه لم يقرأ قط كتاب موسى والتوحيد قراءة مباشرة وتامة. ففرويد لم يبنِ تفسيره لنشأة اليهودية على أساس ” عودة المكبوت التوحيدي”، وبالتالي لم يقل قط في أي موضع من هذا الكتاب أو في أي نص آخر إن ” التثليث المسيحي ” كان بمثابة “كبت للوحدانية اليهودية “، وبالتالي إن الاسلام مثَّل ” عودة المكبوت التوحيدي اليهودي “.فالمسيحية في نظر فرويد ديانة توحيدية مثلها مثل اليهودية من قبلها والإسلام من بعدها، ولم يرمِها قط بتهمة التثليث التي هي محض سلاح إيديولوجي في أيدي خصوم المسيحية، ولا سيما في الأوساط السلفية الإسلامية. وإذا كان العفيف يندد بما أسماه تيار “الإسلام الظلامي”، فإن حديثه عن “التثليث المسيحي” يقدِّم أكبر خدمة إيديولوجية لهذا التيار عينه الذي يتهم المسيحية بالشرك. والواقع أن المكبوت الديني الذي يتحدث فرويد عن عودته ليس الواحدية التي كبتتها المسيحية زعماً، بل جريمة قتل الأب البدائي كما تجسدت في قتل اليهود لمؤسس ديانتهم موسى بحسب فرضية مؤسس التحليل النفسي.وكل اختلاف المسيحية عن اليهودية هو أنها أحلّت عبادة الإله الابن محل عبادة الإله الأب كما قال فرويد في الصفحة الأخيرة من كتاب موسى والتوحيد.
4- يقول العفيف، ودوماً في سياق اتهامي بتزوير الترجمة : ” أصدرت دار الطليعة ترجمة جديدة للبيان الشيوعي بقلم زاهي شرفان (اسم مستعار) وقدم له جورج طرابيشي الذي كان الشريك الرئيسي في ترجمته. وقد علمت أن هذه الترجمة طلبها صدام حسين لتطهير البيان من كل ما يتعارض مع الشعارات البعثية ليكون النسخة الوحيدة المسموح بها في العراق “.
وهنا تحديداً يبدو أن المزوِّر أو المفئتت هو العفيف نفسه. فصحيح أن زاهي شرفان قد ترجم أو أعاد ترجمة البيان الشيوعي بعد أن كانت الترجمة السائدة من قبل هي ترجمة خالد بكداش. وصحيح أن زاهي شرفان اسم مستعار، ولكن هذا كله شيء و شيء آخر أن يزعم العفيف أني شاركت بنفسي زاهي شرفان في ترجمة البيان وفي كتابة مقدمة له وفي تشويهه حيث حذفنا منه كل ما يتعارض مع الشعارات البعثية.
فالواقع أن مترجم البيان ليس أحداً آخر – تحت اسم زاهي شرفان المستعار – سوى الكاتب المعروف وضاح شرارة. وأما شريكه في الترجمة فليس أحداً آخر سوى الزميل و الكاتب المعروف أيضاً عزيز العظمة وإن يكن هذا الأخير اختار بدوره لنفسه اسماً مستعاراً هو قيس الشامي.
ولست أدري إن كان عزيز العظمة = قيس الشامي شارك فعلاً وضاح شرارة = زاهي شرفان في ترجمة البيان الشيوعي. لكني أدري أن الاثنين و بالاسمين المستعارين عينهما ترجما كتاب الأمير الحديث لأنطونيو غرامشي.أما أن يكون أحدهما أو كلاهما قد حذفا من البيان الشيوعي “كل ما يتعارض مع البيانات البعثية ” فأترك لهما مهمة الرد عليه ما داما حيين يرزقان.
أما الكسب الذي يحققه العفيف من وراء إلصاق هذه التهمة بي فهو دمغي بالعمالة لنظام صدام حسين بعد أن كان اتهمني بالعمالة لنظام حافظ الأسد في المرة الأولى تلميحاً و في الثانية تصريحاً.
5- يتهمني العفيف، فضلاً عن التزوير المزعوم، بارتكاب أخطاء في الترجمة. وهذا واقع لا أماري فيه بالنسبة إلى بعض ترجماتي الأولى التي بتُّ لا أوافق على إعادة طبعها ما لم أخضعها للمراجعة. فالترجمة، مثلها مثل أي مهنة في الدنيا، تخضع لقانون التراكم في الخبرة.أما أن يتهمني العفيف بأني أترجم عن طريق المسجلة وبأني لا أرجع إلى القواميس، وحصراً منها منهل سهيل إدريس، فقد لا أثقل على القارئ إذا نوهت بأن الكتابين اللذين حملتهما معي من بيروت إلى باريس، في هجرتي سنة 1984، كانا تكوين العقل العربي لمحمد عابد الجابري وقاموس المنهل لسهيل إدريس.وعلى ذكر هذا الأخير فإني أستميحه عذراً ومغفرةً إذا ذكرت الواقعة التالية. فعندما صدرت الطبعة الأولى من المنهل رحبت بها كمترجم لأن المنهل أفادني أكثر مما كان يفيدني أي قاموس آخر. ولكني في الوقت نفسه اكتشفت، بفضل ممارسة الترجمة، عشرات وعشرات الأخطاء في تلك الطبعة الأولى. وقد صارحت بها سهيل إدريس في حينه فطلب مني أن أضع قائمة بها ليعتمد ما يراه مناسباً من التصحيحات في الطبعة الثانية للمنهل. وقد بقي سهيل إدريس يرحب بملاحظاتي سواء أأخذ بها أم لم يأخذ.
أما أن يقول العفيف إني أترجم لا كتابة على الورق بل على المسجلة،فلست أملك من ردّ على هذه التهمة المضحكة، التي تشهد على كذبها عشرات الآلاف من الصفحات المكتوبة بخط يدي لدى ناشري ترجماتي، ولا سيما دار الآداب ودار الطليعة، سوى القول:إن العفيف قد مارس عليَّ ما يسميه التحليل النفسي بالإسقاط، إذ عزا إليَّ ما بات مضطراً هو نفسه إلى أن يفعله منذ أن أصيبت أصابعه بما يشبه الشلل فصار يملي مقالاته إملاءً سواء بواسطة مسجلة أم بواسطة سكرتير.
6- في معرض تعليقه على نقدي لعابد الجابري في المجلدات الخمسة التي صدرت تحت عنوان مشترك هو “نقد نقد العقل العربي يقول العفيف: “عندما قرأت الجزء الأول من نقد الجابري فوجئت بأن الناقد ليس بأعلم من المنقود. ففي الصفحات الأولى التي ثرثرت عن العقل المكوِّن وعن العقل المكوَّن الذي استعاره الجابري من لالاند، اتضح لي أنهما معاً لم يفهماه. ثرثر طرابيشي برهة وأخيراً اعترف بأن مفهوم العقل المكوِّن و المكوَّن غامض عند لالاند نفسه. والحال أن الموضوع واضح عند لالاند في كتابه الذي زعم أنه قرأه.فما هو العقل المكوِّن والمكوَّن؟ العقل المكون (بكسر الكاف = يقصد العفيف بكسر الواو ) هو الحقائق العلمية والنظرية. والعقل المكون ( بفتح الكاف = يقصد بفتح الواو ) هو التكنولوجيا أي التطبيقات العملية للنظرية.الحقيقة العلمية هي البحث الخالي من الغرض التجاري أو العسكري. والحقيقة التكنولوجية هي البحث المغرض عسكرياً وتجارياً “.
وتصحيحاً لكل هذا الهراء – (لا أجد بداً من استخدام هذا التوصيف) – أجدني مضطراً إلى إعادة وضع النقاط على الحروف مهما أثقلت على القارئ.
يؤكد العفيف، في محاولة منه للحكم بالجهل على “الناقد” كما على “المنقود”، أن الجابري استعار مفهوم العقل المكوِّن و المكوَّن من لالاند. والحال أن ما حاولت أن أثبته في ما وصفه العفيف بأنه ” ثرثرة ” الصفحات الأولى من الجزء الأول من كتابي في نقد الجابري المعنون نظرية العقل هو أن هذا الأخير ما استعار مفهوم العقل المكوِّن والمكوَّن من أندريه لالاند، بل من بول فوكييه. والحال أيضاً أن هذه نقطة مركزية في كل نقدي للجابري: تزويره لمصادره. فمع أنه يحيل قارئه في الشواهد المقتضبة التي يتحدث فيها عن العقل المكوِّن و المكوَّن إلى كتاب لالاند ” العقل ومعاييره ” الصادر عام 1948، فقد بيَّنت أن هذه الشواهد ليست مأخوذة من لالاند ومن كتابه “العقل ومعاييره ” مباشرةً كما يدعي مؤلف ” تكوين العقل العربي “، بل من ” معجم اللغة الفلسفية ” لبول فوكييه الصادرة طبعته الثانية عام 1969. والحال أن معجم اللغة الفلسفية هذا ليس سوى معجم برسم ” الطلبة والجمهور العريض غير المتخصص ” كما يقول فوكييه في تقديمه لمعجمه، وهو لا يزيد على حشد أكبر عدد متاح من الشواهد بأقلام شتى الفلاسفة والكتّاب ممن تحدثوا عن مفهوم بعينه من مفاهيم الفلسفة. والحال أيضاً أنه عندما يقول العفيف إنني، بعد طول “ثرثرة ” في الصفحات الأولى من كتابي، انتهيت إلى القول بأن ” مفهوم العقل المكوِّن والمكوَّن غامض عند لالاند نفسه ” فإنه يخطئ المرمى مرة ثانية.فأنا لم أعزُ غموض المفهوم هذا إلى لالاند، بل إلى فوكييه.ولو كان الجابري رجع إلى الأول لا إلى الثاني لما جاء تعريفه بدوره للعقل المكوِّن والمكوَّن غامضا وملتبساً.
ولكن مهما تكن درجة الغموض والالتباس في تعريف الجابري المنقول عن فوكييه فإن الامر يهون مع الخلط والهذر اللذين يعرِّف بهما العفيف نفسه كلاً من العقل المكوِّن والمكوَّن.
فلقد كان لالاند – وهذه تجليته – سباقاً إلى صياغة جدلية العقل المكوِّن والمكوَّن ليميّز بين حالين أو ضربين من العقل :فالعقل المكوِّن هو العقل الفاعل الذي يضع المبادئ الأولى والكلية والقواعد أو المعايير التي نعتمدها في استددلالاتنا ضماناً لصحتها، بينما العقل المكوَّن هو محض نتيجة لفعالية العقل المكوِّن، وهو يتمثل بجملة الأفكار التي تفرض نفسها في زمن من الأزمان كما لو أنها حقائق أبدية غير قابلة للتغيير ولا حتى للنقض.
وحتى لا نبقى أسرى مثل هذه التعاريف المجرَّدة – والتجريد هو من طبيعة كل قول فلسفي – فلنقل إن الثقافة العربية عرفت جدلية العقل المكوِّن والمكوَّن ومارستها على نحو باهر في تاريخيته. فبعد الفتوحات الإسلامية في القرنين الأول والثاني للهجرة، وعلى امتداد الحقبة ما بين نهاية القرن الثاني و أواسط القرن الخامس، عرفت الثقافة العربية نشاطاً خارقاً للمألوف للعقل المكوِّن، فرأت النور وتطورت بسرعة المعرفة والعلوم في شتى الميادين بدءاً بعلوم التفسير والفقه واللغة والبيان و انتهاءً بعلوم الكلام والفلسفة والتصوف والتاريخ والعلوم العلمية كالكيمياء والرياضيات والجغرافيا. ولكن ابتداءً من نهاية القرن الخامس للهجرة توقفت فاعلية العقل المكوِّن وفرضت منظومة الأفكار والمبادئ المصاغة نفسها بوصفها حقائق نهائية غير قابلة للتغيير وغير قابلة في أحسن الأحوال إلا للشرح وإعادة الشرح، وفرضت نفسها أيضاً فلسفة ” فضل علم السلف على علم الخلف ” كما يقول عنوان كتيّب مشهور لابن رجب الحنبلي، وطغى مفهوم البدعة على مفهوم الإبداع، وصار الشعار المعمول به هو: “من كانوا قبلكم هم أعلم منكم” حسب القول المنسوب إلى عمر بن عبد العزيز. ومع هذا الانتصار للعقل المكوَّن على المكوِّن دخلت الثقافة العربية في دياجير قرون وسطى على المنوال الأوروبي. ولم يقيّض لها أن تستأنف مسيرتها وتخرج من عصر الانحطاط إلا مع عودة العقل المكوِّن إلى الاشتغال منذ مطلع ما بات يسمى أيضاً برمزية لا تخفي نفسها: “عصر النهضة”.
جدلية العقل المكوِّن والعقل المكوَّن هذه كما قال بها لالاند وكما يمكن توظيفها في فهم الصعود والأفول ثم محاولة النهوض من جديد في تاريخ الثقافة العربية هي التي فات على الجابري ومن بعده العفيف الأخضر نفسه فهمها وتوظيفها. ولكن لئن يكن الجابري قد فوّت على نفسه فرصة توظيف خصب لجدلية العقل المكوِّن والعقل المكوًّن بالنظر إلى اعتماده على فوكييه دون لالاند، فإن العفيف الأخضر الذي لم يرجع إلى لالاند ولا حتى إلى فوكييه، قدَّم عن تلك الجدلية صورة لا يمكن وصفها إلا بأنها كاريكاتورية، وذلك عندما عرّف، من عندياته المطلقة، العقل المكوِّن بأنه “الحقائق العلمية والنظرية ” والعقل المكوًّن بأنه “التكنولوجيا أي التطبيقات العملية للنظرية “. وإزاء مثل هذا التعريف المسطًّح والمجرًّد من كل عمق فلسفي لا نستطيع أن نمسك عن الإشارة إلى نقطتين:
أولاهما أن لفظ التكنولوجيا لم يرد قط في كتاب لالاند “العقل و معاييره” الذي يزعم العفيف أني لم أقرأه وأنه هو وحده الذي قرأه.
وثانيتهما أن مفهومه للتكنولوجيا بوصفها محض تطبيق عملي للنظرية هو مفهوم قاصر عن فهم طبيعة التكنولوجيا بالذات. فهذه غير قابلة للتنزيل في خانة ” العقل المكوَّن ” لأن من طبيعة هذا العقل أن يتصوَّر نفسه، حسب تعريف لالاند أيضاً في كتابه الآخر ” المصطلح التقني والنقدي للفلسفة “، أنه تجسيد لحقائق أبدية غير قابلة للتغيير، على حين أن التكنولوجيا هي بطبيعتها ثورية وقيد تغيُّر وتطور دائمين، مثالها في ذلك مثال التكنولوجيا الطيرانية التي بدأت بالمنطاد ثم تطورت إلى الطائرة الشراعية فالطائرة بمحرك واحد ثم بمحركين ثم بأربعة، ثم الطائرة النفاثة، ثم الطائرة الخارقة لجدار الصوت، وصولاً إلى المركبة الفضائية، وربما في الغد القريب إلى السيارة الإلكترونية الطائرة.
يبقى أخيراً ما يدّعيه العفيف من أن نقدي للجابري انحصر بالجزئيات التفصيلية ولم يتعرض لـ”مذبحة المفاهيم الإبستمولوجية التي ارتكبها الجابري”. وردّ إضرابي المزعوم هذا عن نقد الجابري إلى كوني لا يساورني “شك في دقة مفاهيم الجابري الإبستمولوجية”. ولهذا تحديداً رفض أن يتابع قراءة دراستي عن كتاب الفلاحة النبطية وباقي فصول “العقل المستقيل في الإسلام”.وهنا لا أملك إلا أن أتهمه بأنه أصدر حكمه هذا عن سبق عمد ونية مبيّتة وبدون أن يقرأ أي جزء من الأجزاء الخمسة في أكثر من ألفي صفحة التي يتألف منها “نقدُ نقدِ العقل العربي”. ذلك أن كل نقدي للجابري تركّز أولاً على تفكيك “مفاهيمه الإبستمولوجية ” والنظرية، وتحديداً في الجزئين الأولين الذين يحملان كعنوان “نظرية العقل” و”إشكاليات العقل العربي” قبل أن أنصرف في الأجزاء الثلاثة التالية إلى نقد التخريجات التطبيقية لتلك المفاهيم النظرية والإبستمولوجية الافتراضية.
7- يقول العفيف إنه هو من اقترح عليَّ “اتخاذ موقف من الحرب الأهلية السورية، فأرسلت لي بعد أسبوع مقالاً… لخَّصت فيه سبب الحرب بـ “ابتلاع النظام للدولة”. وبادر إلى اتهامي بأني سرقت هذه الفكرة من سوسيولوجيي الحزب الاشتراكي الفرنسي الذين اتهموا ديغول بأن النظام في عهده “ابتلع الدولة”، أي أن “السلطة التنفيذية ابتلعت السلطة التشريعية”.
وللحقيقة التاريخية أقول إن المقال الذي كتبته عن بداية الانتفاضة السورية، و ليس عن “الحرب الأهلية السورية ” – التي لم تكن تحوَّلت إليها بعدُ يومَ كتبت هذا المقال في 28 أيار/ مايو 2011 – لم أكتبه بناءً على اقتراح العفيف كما يتخيل و يخيِّل إلى القارئ، بل بناءً على اقتراح من حازم صاغية الذي نشره للحال في جريدة الحياة. ولهذا الأخير أن يشهد إذا شاء. أما أن أكون قد استعرت الفكرة من سوسيولوجيي الحزب الاشتراكي الفرنسي فلكم كنت أتمنى لو فعلت أو لو كنت في حينه قد اطلعت عليها. ولكن العجب، كل العجب، أن يتخيل العفيف أن الوضع في سوريا كان قابلاً في نظري، من أي زاوية من الزوايا، للمقارنة مع فرنسا الديغولية في مطلع عهد الجمهورية الخامسة (1958). فهذه كانت في حينه دولة ديمقراطية وإن يكن ديغول قد سعى إلى تحويلها من ديمقراطية برلمانية إلى ديموقراطية رئاسية. وهي تبقى في جوهرها، وفي الحالتين ديمقراطية. أما سوريا في عهد البعث، مثلها مثل العراق، فلم تكن إلا دكتاتورية تامة ناجزة، والابتلاع الذي حدث فيها ليس ابتلاع السلطة التنفيذية للسلطة التشريعية، بل ابتلاع النظام لسلطات الدولة الثلاث معاً: التشريعية و التنفيذية والقضائية، فضلاً عن ابتلاعه حزب البعث نفسه، وابتلاع الجيش وإحلال رجل المباحث محل رجل الشرطة. ولهذا كله طالبتُ النظام السوري بأن يبادر، إذا كان يريد تجنُّب الحرب الأهلية، إلى إصلاح نفسه، وقلت إنه ليس لهذا الإصلاح من طريق آخر سوى أن يلغي النظام نفسه بنفسه. وختمت مقالي بالقول : ” بلى لإصلاح النظام إذا كان مقدمة لإلغائه، ولا لإصلاح النظام إذا كانت الغاية منه تأبيده”.
8 – يقول العفيف ” في 2011 استنجدت بجورج طرابيشي ليساعدني على تصحيح الأخطاء الطباعية في مقالاتي ” رسائل تونسية “… والحال أنه راح يركز على ما يعتبره أخطاء نحوية مع أني أعتبرها (هذه الأخطاء)، طبقاً لمشروعي لإصلاح العربية، تيسيراً لنحوها الذي طالب الكثيرون بإصلاحه”.
وللحقيقة التاريخية أقول : لقد كان العفيف طلب إليّ بالفعل أن أصحح الأخطاء الطباعية في “رسائله التونسية” قبل أن يرسلها للنشر في المواقع الإلكترونية. ولقد صححت بالفعل كلمة “كاثوليكي” إلى “كاثوليكياً” تبعاً لموقعها في الإعراب ظناً مني أن الأمر مجرد خطأ مطبعي. ولكني فوجئت بالعفيف تثور ثائرته عبر الهاتف ويتهمني بما أسماه “فضيحة تزوير رسائل تونسية”، مؤكداً أن الأمر ليس أمر خطأ مطبعي، وأنه تعمَّد ألا ينصب “كاثوليكياً” لأنه في تقديره “ممنوع من الإعراب للعجمة”.فقلت له: أنت مخطئ، فهو مجرد نعت وليس اسم علم. والعجمة وحدها لا تكفي للمنع من الصرف، بل لا بدّ أن تجتمع العجمة والعَلَمية معاً. وعلى كلٍ لن أصحح بعد الآن أي خطأ مطبعي دون التفاهم معك. وهكذا كان. وصرت أقضي ساعات طوالاً معه على الهاتف كلما أرسل إليّ مقالاً جديداً حتى لا أصحح أي خطأ قبل أن يوافق على التصحيح. ولكن في المرة الأخيرة جاءني منه مقال وردت فيه كلمة “الإله” عدة مرات، فظننت أني إزاء خطأ مطبعي إذ إنه كتبها “الإلاه”. فلما دار النقاش بيننا في الهاتف حولها قال لي: كلا إنه ليس خطأً طباعياً. فما دام “الإله” يلفظ بالمدّ فلا بد أن يكتب “الإلاه”. فقلت : هذه لن يفهمها القارئ وسيحسبها خطأً مطبعياً، فأصّر، فقلت له: على رسلك، ولكن لماذا لا تكتب في هذه الحال كلمة “الله” على هذا النحو: “اللاه” طبقاً لنظريتك؟ فثارت ثائرته ساعتئذ، ومن ذلك اليوم لم يعد يرسل إليَّ مقالاته للتصحيح.
وقد يتساءل القارئ: لماذا ضيَّعت من وقتي ما ضيَّعت تصحيحاً لمقالاته ونقاشاً لتصحيحها؟ وأجيب هنا بكل صراحة: أولاً لعلمي أن العفيف مريض بالسرطان ولأن مقالاته هذه كانت وسيلته الوحيدة للعزاء، وثانياً لأنني كنت معجباً بهذه المقالات ومعجباً على الأخص بروح العفيف النقدية وبجرأته على اقتحام مجال المقدس تفكيكاً ونقداً في زمان كزماننا عاد فيه “المقدس” إلى احتلال واجهة الفكر العربي و يافطات الشارع وهتافات جماهير الشارع.
9 – لي في ختام الرد على بيان الاتهام الذي صاغه العفيف بحقي سؤال إذا كنت أنا ذلك المثقف الخائن لرسالة الثقافة، وإذا كنت لا أفعل من شيء في حياتي الفكرية سوى أن أمارس الرقابة على المثقفين وأمارس التزوير في الترجمة والكتابة، وإذا كنت قد دللت على عدم أخلاقية بل على عمالة مبطَّنة للنظام البعثي السوري وعمالة سافرة لنظام صدام حسين، وهذا على مدى الأربعين سنة التي عرفني وتعامل معي فيها العفيف الأخضر إلى يوم محاولة انتحاره قبل بضعة أيام، فلماذا أباح لنفسه بعد القطيعة البيروتية أن يعاود الاتصال بي في باريس و أن يصبح نديمي اليومي عبر الهاتف وأن يطلب إليّ – وأنا المزوِّر والمدمن على التزوير- أن أساعده في تصحيح الأخطاء الطباعية في مقالاته، بله أن يفاتحني ذات يوم برغبته في أن يعهد لي بوصيته وأن يطلب مساعدتي في تأمين سكرتير له بعد أن بات عاجزاً عن الكتابة لمرض في يده (أفلم يخشَ أن يكون هذا السكرتير جاسوساً يعمل لحسابي؟). بل أكثر من ذلك: كان إذا ما اتصل بي بالهاتف ولم أكن موجوداً في البيت يدخل في مكالمة مطولة مع زوجتي هنرييت عبودي، فإذا ما انتبه في نهاية الأمر إلى أنه أطال الكلام اعتذر لها قائلاً: اعذريني إن أطلت، فأنا لا أهل لي هنا، وأنت وجورج أهلي الوحيدون.
يبقى بعد هذا كله أن أوضح أني لا أتهم العفيف الأخضر بالكذب. فالكذاب يعرف أنه يكذب. أما في حالة الهذاء فإن الهاذي يكذب دون أن يعي أنه يكذب. فهو يصدِّق ما يقوله ولو كان يكذب. وحتى عندما يخترع فإنه يعتقد أن ما اخترعه هو الواقع وهو الحقيقة.فالهذاء عند الهذائي يحل محل الواقع. ولست أدري على وجه التحديد ما الذي أطلق آلية الهذاء عند العفيف، ولست أدري ما سبَّب الانقلاب الفجائي لصداقته إلى عداء سوى واحد من احتمالات ثلاثة:
أولاً، في آخر محادثة هاتفية منه قبل نحو ثلاثة أشهر نقلت إليه ما جاء في مقال قرأته تضمَّن تصريحاً على لسان راشد الغنوشي يقول فيه :إنه ” حتى جورج طرابيشي يعدُّني إسلامياً معتدلاً “. والحال أن راشد الغنوشي هو، كما هو معروف عن العفيف، عدوه الهذائي الأول الحاضر، خلف أقنعة مختلفة وأسماء شتى، في كل مكان وفي كل مقال يحمل رأياً سياسياً أو أيديولوجياً مخالفاً أو ناقضاً لرأي العفيف. فهل دخل في ظنه أو بالأحرى في يقينه أن قولة الغنوشي عن اعتباري المزعوم له ” إسلامياً معتدلاً ” تنهض دليلاً على أني صرت عميلاً لهذا الأخير أو ظلاَ من ظلاله التي لا يحصى لها عدّ في اعتقاد العفيف؟
هذا هو احتمالٌ أول لانقلاب صداقة العفيف إلى عداء. أما الاحتمال الثاني فقد يكون التالي:
إذ شاءت الظروف أن أغيب أنا وزوجتي لمدة شهرين عن بيتنا وانقطع اتصالي الهاتفي اليومي بالعفيف (وهو ما يشير إليه العفيف نفسه عند كلامه عن الانقطاع المفاجئ للمكالمة الهاتفية). ولما عدنا إلى البيت وجدنا في ذاكرة الهاتف عدة مكالمات من طرف العفيف وآخرها يقول فيها بصوت غاضب : جورج وهنرييت أين أنتما؟ لماذا لا تردّان؟ فهل اعتبر، والحال هذه، أني قاطعته وأن صداقتي له انقلبت عداء؟
أما الاحتمال الثالث و الأخير فهو من طبيعة نفسية خالصة وغير مرتبطة بحَدَث مادي: فقد كنت أمثِّل له على ما أعتقد أناه الآخر الذي ما استطاع أن يكونه. ولعله أراد أن ينحر هذا الأنا الآخر قبل أن يقدم هو على محاولة الانتحار. أو باستعارة تعبيره هو نفسه في ختام مقاله: أن يغتال ذكراي وأنا حيّ بدلاً من أن أغتال ذكراه وهو ميت.
وعلى أي حال أنا لا أُعجب لهذا التحول المفاجئ من الصداقة إلى العداء. فمثل هذا الانقلاب معهود لدى الهذائيين الذين قد لا يجدون سوى الصديق ليلبسوه ثوب العدو.
ومع ذلك أنا لا أشعر بالضغينة بقدر ما أشعر بالألم لما كتبه ولما اضطرني إلى أن أكتبه رداً عليه، وعلى الأخص الألم لفرحة الشماتة التي لا بد أن تكون راودت كل مَن هو عدوٌّ للعلمانية التي كان يجمعني والعفيف الانتماء إليها بغير ما هوادة.
tarabichi5@yahoo.fr
قصتي مع العفيف الأخضر أو الهذاء عندما يتوهَّم نفسه نقداً
توضيح برسم السيد محمد المثلوثي:
لقد اطلعت على مقال العفيف ضدي صبيحة سفري الى بلدة نائية في جنوب البرتغال.ولم يكن الأنترنت بالعربية متوفراً لي. ولما رجعت وكتبت الرد تناهى إلى علمي نبأ محاولة العفيف الانتحار يوم 27 يونيو فامتنعت عن نشر الرد إلى أن تأكد لي أن العفيف نجا واستعاد تمام وعيه وقدرته على الرد إذا شاء.أماعن الشتيمة عن طريق المتنبي فلا يبدو أنها أحرجت المعلق عن الكلام مع ذلك عن “آداب الرد”!
جورج طرابيشي
قصتي مع العفيف الأخضر أو الهذاء عندما يتوهَّم نفسه نقداً
أولا من آداب الرد على المقال أن يكون الرد في نفس الموقع الذي نشر فيه المقال
ثانيا ليس من الشجاعة أن ينتظر الطرابيشي أن يكون العفيف على فراش الموت للرد على مقاله المنشور في 14 جوان بالحوار المتمدن و يروي لنا قصته مع العفيف التي ليست إلا قصته وقد كانت قد سبقته شهرته ب-الطربشة- والتزوير
ثالثا و أخيرا لقد أجاب العفيف مسبّقا مذكرا لمن قد ينفعهم التذكير بيت المتنبي
إذا ما خلا الجبان بأرض / طلب الطعن وحده والنزالَ
تحية للعفيف الاخضر
اقول تحية وتقدير للعفيف الاخضر لانه يكاد يكون المثقف الوحيد الذي وقف بوجه طروحات العروبيين والشيوعيين والاسلاميين. لقد كان الوحيد الذي فضح الدور التخريبي لهذه التيارات خلال الحرب الاهلية اللبنانية. انه لامر مؤسف ان يحدث هذا الاشكال بين المفكرين الكبيرين، ونأمل أن تعود المياه الى مجاريها بينهم في المستقبل القريب. مع التحيات الحارة للمفكر جورج طرابيشي.