قرّرت يا سادتي الأعزاء، ونزولا عند رغبة أصدقائي القلقين على “آخرتي”، والغيورين على “ديني”، أن أنضم خلال إقامتي في قريتي الجنوبية في عطلة عيد الأضحى، إلى حلقات الدروس الدينية التي تنعقد كل ليلة بعد صلاة المغرب في مسجد حارتنا “الجديد”.
وأقول “المسجد الجديد” لأن قريتي الجنوبية، التي يقيم نصف سكانها إما في العاصمة أو المهاجر، صار ينبتُ فيها كل مدة مسجد “جديد”، رغم أنه يكفي قاطنيها القلائل مسجد واحد لإقامة الصلوات وإحياء المناسبات والشعائر الدينية….
قبل الفترة التي اصطلح على تسميتها “الصحوة الدينية“، كان أهل قريتي، الذين يعمل أكثرهم في الزراعة، إضافة إلى بعض أنواع التجارة المتواضعة، مفطورين على الإيمان الهادئ والتديّن المتّزن، مُسرفين في أداء الفرائض الأخلاقية والإنسانية، مقتصدين في الإلتزام بالمظاهر الدينية، وحالهم كما يقول المأثور الديني “كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
وكان يوجد في قريتي مسجد واحد، تتفرع منه “حسينية” بسيطة، بناها أحد علماء جبل عامل المعروفين، وسط الساحة العامة، التي كانت أرضها امتدادا لروحية المسجد و”الحسينية”، وفضائهما المفتوح على مجتمع حي مليء بالأحلام والطموحات والتحديات. وفي أرجائها كانت تلتئم حلقات الدبكة وحفلات الزجل، في الأعياد والمناسبات السعيدة، حيث يغني الجميع ويرقص تحت ظلال المئذنة، وعلى بعد أمتار قليلة من منزل “مولانا الشيخ”.
ولم يحدث أن اجتمع لإمامة قريتي يوماً رجلا دين في وقت واحد! كان وجود رجل دين واحد كفيلاً بشرح وإيصال ما نحتاج إلى فهمه من أمور الدين والدنيا، أو ربما كان أهل قريتي حينها أقرب إلى الله وتعاليم الدين مما هم عليه الآن! على أن دور إمام قريتنا لم يكن محصورا بالوعظ الديني داخل المسجد أو خارجه. فلقد كان “مولانا” فقيها في الأدب والسياسة أيضا، مثقفا من الدرجة الأولى، قارئاً نهماً لدواوين الشعر والروايات وكتب الفلسفة والتاريخ والسياسة، ومتابعاً لكل مستجدات عصره على إختلافها. أذكر أنني رغم صغر سني حينها، قررت أن ألتحق، بدافع الفضول، بالسهرات العامرة التي كانت تقام في منزل “مولانا الشيخ”.
لم تكن السهرات الطويلة على المصطبة صيفاً، وحول “كانون الفحم” في غرفة القبو شتاءً، تقتصر على الإستشارات الدينية، ومعرفة المزيد من مسائل الحلال والحرام وأسباب الثواب والعقاب. فهناك سمعت للمرة الأولى في حياتي برفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والجواهري وأحمد الصافي النجفي وسليمان العيسى وطه حسين وقاسم أمين والعقّاد وغيرهم من أدباء وشعراء وعلماء تنويريين في عالمنا العربي والإسلامي. وهناك أيضا، اكتشفت أن عددا من أبناء قريتي “ماركسيون”! وعددا آخر منهم يدين بأفكار تقدمية جدا وينتمي إلى أحزاب علمانية! كانت أكثر النقاشات في تلك السهرات تدور حول مسائل فكرية وسياسية، وحين تتباين وجهات النظر، ويحتدم الجدل و ترتفع الأصوات وتكثر حركات الأيدي، يتنحنح “مولانا” قليلا، فيهدأ الجميع ، ويردف باسماً: سوف نرطب الأجواء بالشعر. لتبدأ جولة جديدة من المبارزة إلى آخر السهرة.
كان أهل قريتي فلاحين طيبين ، تجمع بينهم أواصر القربى والجيرة الطيبة، ويؤلف ما بين قلوبهم العمل في الحقول والبيادر. وكانوا رغم كدّهم المتواصل وضيق أحوالهم، ينجبون الكثير من الأبناء والبنات، كتعبير عفوي عن حبهم للحياة ، ورغبتهم في الإستمرار، وأحيانا من أجل إنجاب “النموذج” الذي سوف يعلي شأن العائلة الصغيرة. لذلك كانوا يستنزفون أجسادهم وطاقاتهم في العمل المضني كي يرسلوا من تظهر عليه علامات الذكاء والفطنة من أبنائهم إلى أفضل المدارس والجامعات.
لكن قريتي أصبحت اليوم منجرفة في تيار تخلف ممنهّج، علميا و ثقافيا وإنمائيا. تتزين طرقاتها وأزقتها بالنفايات بدلا من الأشجار والأزهار. أهلها هجروا العمل في الأرض والإنشغال بتحصيل العلم والثقافة، واستبدلوا الأحاديث عن مواسم الخير والرزق الحلال وتبادل المعارف بالكلام عن السلاح والدين والسياسة! قريتي لا يوجد فيها مستوصف أو عيادة طبية، ولن أقول مكتبة عامة– فلا يوجد في المدن الجنوبية العريقة أساسا مكتبة عامة واحدة، فكيف بقراها – بل مكتبة عادية لبيع الكتب، إذ لا وجود للقراء، ولا يصلها من الجرائد اليومية سوى أعداد قليلة من الجرائد “الصديقة”، وتنتشر فيها النشريات الدينية والحزبية، الهادفة إلى تعميم ثقافة مذهبية وأدبيات دينية غير مألوفة!
قريتي تعيش اليوم خارج هذا العصر والزمان! أفعال وأقوال أهلها نسخ مكرّرة عن أيام “الدعوة الأولى”، يعيشون لآخرتهم كأنهم سوف يموتون غدا. مدرستها الرسمية صرح شبه خالٍ، نتائجها السنوية رسوب ما بعده رسوب، أما مدرستها الخاصة، فهي أشبه بمعسكر حزبي أو “حوزة دينية”، معلموها وطلابها وموظفوها، من لون سياسي واحد وفكر واحد وانتماء واحد، استغنت إدارتها عن الأزياء المدرسية المعروفة واستبدلتها بـ”الثياب الشرعية” الموحدة الألوان والأطوال والأشكال. أما جرسها فهو عبارة عن موسيقى إيرانية كلاسيكية! غابت عن ساحتها مظاهر الفرح والحياة وغرقت في سواد وحزن دائمين على مدار السنة. شبانها إما “شهداء” أو “مشاريع شهداء”. نساؤها لا يرتدين سوى العباءات والجلابيب السوداء، وأطفالها يرددون الأدعية الدينية والهتافات الحزبية بدلا من أغاني وقصص الأطفال…
ربما أطلت في التقديم…
المهم أنه حين هممنا بدخول المسجد، إذا بسيارة “مفيمة” الزجاج، حديثة الطراز، تتوقف عند بابه. يترجل منها “شيخ شاب”، يحيط به مرافقان عظيما الجثة، يوسعان أمامه الطريق بحركات عصبية وإشارات سريعة بالرأس والعينين، بينما تفتح بوابة الباحة الرئيسية للمسجد ليركن السائق السيارة الخطيرة في المكان المخصص لها.
بعد الفروغ من أداء الصلاة، استدار “مولانا الشاب” صوبنا، وهو ما زال يتمتم ببعض التسابيح، ويمسح على جبينه وصدره، كأنه يبارك نفسه بنفسه، ثم رفع نظره إلينا مرحّباً، معلناً بداية درس اليوم.
والدرس العظيم كان عن حرمة خروج المرأة المسلمة الشيعية من منزلها دون جوارب! ففي ذلك معصية لله ونقصان في الدين! وبعد شرح مستفيض وأسئلة وردود، خلص “مولانا” إلى أن أكبر فقهاء الشيعة أمثال “السيد الخامنئي” و”السيد السيستاني” ، أجمعوا على حرمة خروج المرأة من منزلها دون جوارب، وإن كان إلى مكان قريب. وكذلك حرمة ظهورها في منزلها دون جوارب أمام الرجل “الأجنبي”. وليس المقصود بـ”الأجنبي” الرجل الغريب فقط، بل يمكن أن يكون أحد أقربائها كالصهر وابن العم وابن الخال وما إليه. كما أن الحرمة تنطبق على الجوارب الشفافة التي تظهر من خلالها بشرة القدم…
المهم أيضا يا سادتي الأعزاء، أنه بعد خروجي من المسجد، أدركت لماذا انحدر مستوى الوعي الإجتماعي والثقافي والإهتمام العلمي لأبناء قريتي. ولماذا انقطعوا عن إقامة سهرات الفكر والشعر، وتسطّحت مفاهيمهم وانشغلوا عن عظائم الأمور بتوافهها. وترحّمت على أيام “شيخنا” المتنوّر، حين كانت قريتي تضج بالعلم والمعرفة والتعددية الحزبية والفكرية والدينية، بعد أن حوّل “رحمه الله” بيته والمسجد والحسينية إلى منتديات ثقافية، ومنابر مفتوحة على كل مختلف وجديد.
وأشفقت على أهل قريتي، لأن عدد المعمّمين بينهم جاوز الدزينة، لكنهم ابتعدوا عن الله والدين والبشر. وأدركت أن كثرة المساجد ليس دليلا على ازدياد أعداد المؤمنين، بل وسيلةً لزيادة عدد المستلحقين بسياسة بناة المساجد، وأن الغاية من وراء ذلك نشر الجهل والتخلف والتعصب، لأن التثاقف الحقيقي وتبادل المعارف لا يصنع مستتبعين بل أندادا ونُقّادا ومحاسبين.