التقيته في منزله. كانت “حرب الاسناد” في بداياتها، تناقشنا في تداعياتها، وامتد الحديث بيننا الى أزمة انتخاب رئيس للجمهورية. ومع انه كان اللقاء الاول بيننا، إلا أنه لم يجد حرجا في ان يفصح لي عن مبادرة تفضي الى انتخاب رئيس، في عز الازمة وعدم انقشاع غبار الحروب التي كانت تحيط بنا.
تفاجأت بتفاؤله، الى ان افصح لي عن سلسلة لقاءات مع مروحة واسعة من القوى السياسية على ضفتي الصراع في لبنان، ما أصابني بالدهشة، كيف لطبيب ناجح ولامع ان يجد الوقت للقيام بكل هذه الاتصالات؟ ومن اين جاءته هذه الثقة بالنفس، ليطرق جميع الابواب، وهو غير المنغمس في وحول السياسة اللبنانية واصطفافاتها؟ وكيف يأتمنه السياسيون على أسرارهم؟ ولماذا غسان سكاف؟ ما سر قوته؟
تكررت اللقاءات بيننا واصبحت شبه دورية، واكتشفت شخصية الطبيب الجراح، والسياسي الصادق. كتلة من الاخلاق تتحرك بدون تعب بين غرفة العمليات في مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت، ومقرات الاحزاب والشخصيات السياسية، محضره خير، فأتمنه السياسيون. سعى الى ردم الهوة بينهم، فكان مصدر ثقة الجميع. استتنبط اكثر من مبادرة لحل ازمة الرئاسة، وكاد يقترب من النجاح، ولكن الاحداث كانت تسبقه، وكانت اكبر منه ومن لبنان، ومن الارادات الطيبة، والخبيثة والعاجزة، او التي تأتمر بأوامر خارجية، ومع ذلك لم يغادر مربع التفاؤل بمستقبل لبنان، حتى الرمق الاخير من حياته.
نقاشاتنا امتدت مع الصديق الحبيب الاستاذ وليد يونس، نسيبه والصديق المشترك، وزوجته المحامية ميسم، كانت تشاركنا هواجس ودهاليز السياسة. وبسبب افتقار العاصمة تحديدا الى المنابر السياسية، وغياب السياسة عموما عن الخطاب الوطني، وانحسارها الى سياسيات الزورايب والنكد والكيدية، سعينا مع مجموعة تشبهنا ونشبهها الى تأسيس المنتدى السياسي الوطني في منزل الدكتور غسان، ولكن المنية كانت أسرع من ان تتبلور شخصية المنتدى السياسية، فخطفت من بيننا الراحل الصادق.
في اجتماعاتنا القليلة التي عقدناها، كان الدكتور غسان بوصلة وطنية مترفعا عن الحسابات الضيقة، يقارب السياسة من منظور وطني بحت.
وحين حدث تفجير الكنيسة في دمشق، راقب ردات الفعل، استغرب عدم قيام الرئيس السوري بتعزية البطريرك اليازجي بشهداء الكنيسة الابريا، فعملنا معا على التواصل مع اصدقاء سوريين داخل سوريا وخارجها، لاكتشف ان له شبكة علاقات متجذرة في كنيسة الروم الارثوذكس وفي سوريا ومع عدد من المطارنة الارثوذكس. علاقات لا تختلف في جوهرها عن طبيعة علاقاته السياسية والاجتماعية.
وبعد حوالي الاسبوعين من سعينا لفهم طبيعة العلاقة بين السلطة السورية وبطريركية الروم الارثوذكس، وصل البطريرك اليازجي الى دمشق للمرة الاولى بعد سقوط نظام الاسد، ووصل وفد رئاسي الى البطريركية للتعزية بشهداء الكنيسة، وكانت بصماته واضحة من دون ادعاءات ولا تبجح. ورغم قرب العلاقة التي جمعتنا، لم يفصح لي عن المساعي التي افضت الى ردم هذه الهوة بين بطريركية الروم والسلطة السورية والدور الذي اضطلع به، بل فهمت من سياق الحديث انه كان ساعي خير وان المساعي تكللت بالنجاح. واتفقنا على تشكيل تجمع سوري لبنان يعمل على تنقية الذاكرة السورية-اللبنانية، من كل ما علق بها نتيجة سوء الفهم التاريخي الناشيء بين البلدين. وبدأنا فعلا سلسلة اتصالات اتسمت الردود عليها بالاستعداد والحماس والايجابية من اللبنانيين والسوريين، ولكن ايضا غلبنا الموت جميعا فخطف تلك القامة المستقيمة من بيننا.
قلة هم رجال السياسة في لبنان الذين يشبهون الدكتور غسان سكاف، فهو قامة برلمانية يصح التمثّل بها، وهو طبيب ناجح، عالج المئات بل ألاف المرضى، عصامي لم يطلب يوما شيئا لنفسه، مستقيم الراي.
صديقي دكتور غسان رغم المرض كنا نلتقي الى أن غالبك فغلبك. كنت اسعى للاطمئنان عنك عبر الصديق الاستاذ وليد والزوجة الصديقة الاستاذة ميسم، الى أن فاجأني كما فاجأ الجميع خبر وفاتك.
كم تحملت من المشقات وانت تقرأ نتائج فحوصك الطبية وانت الطبيب الناجح وكنت تعرف الى اين انت تسير. ومع ذلك لم يتسرب الى شخصك اي روح انهزام او تقاعس، او تتراجع عن اندفاعتك حتى اقعدك المرض فآثرت الانعزال الى ان قابلت وجه الخالق بقلب المؤمن النقي، الذي ضاعف وزناته فسار الى ربه راضيا مرضيا.
سأفتقدك، سأفتقد نقاشاتنا التي لم نستكملها به، سأفتقدك في المنتدى السياسي الوطني، سأفتقدك في العاصمة التي اصبحت جزءا منها بالنسبة الي.
الى جنات الخلد صديقي دكتور غسان
