إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
ترجمة “الشفّاف”
يكشف تقريرٌ لمؤسّسَة”العدالة ليهود البلدان العربية” عن التهجير المنهجي والتدمير الثقافي للجالية اليهودية في سوريا، ويحكي قصة مجتمع أقدم حتى من العرب والإسلام.
حدثت عملية القضاء المنهجي والمتعمد على الجالية اليهودية النابضة بالحياة التي تعود جذورها إلى 2500 عام في سوريا، بشكل رئيسي، بين العقود الأولى من القرن العشرين والعام 1958. وبالإضافة إلى كونها تمثل هجرةَ أدمغة وخسارة ثقافية للبلاد، فإنها تمثّل استيلاءً على عقارات وأصول وحيازات بقيمة 10 مليارات دولار وفقًا للأسعار الحالية.
هذه هي بعض من النتائج التي كشف عنها تقرير ضخم صدر عن مؤسّسة “العدالة لليهود من البلدان العربية” (Justice for Jews from Arab Countries (JJAC))، وهي مجموعة تمثل اليهود من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. التقرير هو نتاج ست سنوات من التحقيقات الدقيقة، حيث تم توثيق سرقة الأُصول والإبادة التامة لثقافة أصلية متعددة الأوجه تعود لقرون لشعبٍ يبلغ عدده نحو مليون نسمة عاش في الشرق الأوسط لمدة 1500 عام قبل ظهور الإسلام.
مع سقوط نظام الأسد في سوريا، أصدرت جمعية “العدالة لليهود من البلدان العربية” أول تقرير من أصل 11 تقريرًا في هذا المشروع التاريخي. محتويات التقرير متاحة الآن لأول مرة. وستصدر التقارير المتبقية على مدار الأشهر القادمة.
وفقًا للحاخام الدكتور “إيلي عبادي”، الرئيس المشارك للمؤسّسة، فإن نشر هذه البيانات يُحقِّق بشكل كامل مهمة المؤسّسة..
وقال عبادي: “نريد أن نُعَلِّم الجميع، وخاصة الأشخاص الذين هم من نَسل يهودِ البلدان العربية، ثم المجتمع اليهودي، ثم جميع الآخرين”. وأضاف: “مع الكشف عن هذا التاريخ، يأتي الاعتراف بالظلم الذي وقع على الجالية اليهودية السورية الأصلية”.
وأضاف: “إنها قصة يعرفها قليلون. ما فعلته [الحكومة السورية] كان اقتلاع مجتمع يعود إلى زمن تدمير الهيكل الأول. اقتلعوا مجتمعًا أقدم حتى من العرب أنفسهم، أقدم من الإسلام. وفعلوا ذلك دون عقاب. لقد أخفوا القصة ولم يتعرضوا أبدًا للمساءلة.عما فعلوه”.
يُعدُّ محو الثقافةِ اليهودية السورية أمرًا دراميًا بشكل خاص. “كان المجتمع معروفًا بمساهماته الاقتصادية الكبيرة. لعب التجارُ اليهود دورًا في التجارة الخارجية، وأداروا شبكات مصرفية هامة، وشاركوا في التجارة الدولية التي ربطت سوريا ببغداد وفارس والهند”، حسبما يذكر التقرير.
ومع ذلك، فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، كانت وضعيةُ اليهود في سوريا مهددة بسبب الحركات القومية العربية التي كانت تستهدف المجتمع اليهودي المحلي. وقد تمثلت هذه في “حركات مستوحاة من الفاشية، وظهور مجموعات شبابية على غرار النازية، وزيادة الهجمات الجسدية، وتصاعد الخطاب المعادي للسامية”، وفقًا للتقرير.
وقال التقرير: “شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أشد أشكال الاضطهاد، بما في ذلك الاستيلاء الشامل على الممتلكات، والقيود الشديدة على الحركة، والتهميش الاقتصادي المنهجي، والحوادث العنيفة، والتحرشات المُغَطّاة حكومياً”.
يتناول التقرير المؤلّف من 94 صفحة “التحليل التاريخي والاقتصادي للجالية اليهودية السورية” ويُفَصّل التقرير نطاقََ ومنهجية الباحثين في اكتشاف وتوثيق الممتلكات المُصادرة؛ ويتضمن تحليلًا للخسائر الاقتصادية، حسب الفئات، مثل الممتلكات الريفية والحضرية، وتقييم الممتلكات الشخصية والمتحركة. كما يشرح كيفية حساب التقييمات الحالية.
وُلدَ الحاخام الدكتور “إيلي عبادي” في لبنان، وهو إبن يهودي سوري من :حلب. وهو يقول: “عانى والداي من الاضطهاد. هربا من “حلب” – والدتي في عام 1948 ووالدي في عام 1950 – ووجدا ملجأ في لبنان، حيث قاما بدفع الرشاوى لمسؤولي الهجرة، وموظفي القطارات”، وغيرهم على الطريق. ولكنهم عانوا مرتين، كما قال، حيث وجدوا أنفسهم مضطرين لمغادرة لبنان في عام 1971.
وفقًا لعبادي، فإن سوريا دخلت في دوامة بعد طرد سكانها اليهود. وقال: “ليس الأمر مجرد رأي بل هو حقيقة”. “بعد حرمانها من الإبداع، والمال والثقافة، ما الذي تبقى من سوريا؟ أو اليمن؟ أو لبنان؟ هذه البلدان أصبحت دولًا متخلفة. لقد خسرت.”
يذكر تقرير “العدالة لليهود من البلدان العربية” أن عدد الجالية اليهودية في سوريا، وخاصة في دمشق وحلب، كان يبلغ 50,000 في بداية القرن العشرين، ولكنه انخفض إلى 30,000 في عام 1948، ثم إلى 5,000 بعد حوالي عشرة أعوام. بحلول عام 1991، لم يتبقَ سوى 100 يهودي سوري في وطنهم، ومن بينهم، يُعتقد أن أربعة يهود سوريين فقط يعيشون هناك اليوم. وكان سبب هذا الانخفاض الدراماتيكي هو “الاضطهاد المستمر والسياسات التمييزية التي كانت تدعمها الدولة”، وفقًا للتقرير.
يكتسب توقيت التقرير أهمية بالنظر إلى التغيير المفاجئ في النظام في سوريا، وفقًا لـ”سيلفان أبيتبول”، الرئيس المشارك لـ “العدالة لليهود من البلدان العربية”، الذي يعمل مع عبادي.
وقال أبيتبول: “السردية الرائجة هي أن اليهود هم أوروبيون ومستعمِرون، وأن هناك مجموعةً واحدة فقط من اللاجئين لأن اليهود لم يكونوا يوماً جزءًا من المشهد الشرق أوسطي. ولهذا وضَعنا تقريراً يوثّق وجود اليهود في الشرق الأوسط لآلاف السنين.”
يمثّل التقرير الذي صدر حديثًا حول الجالية اليهودية السورية المهزومة فقط الجزء الأول من السلسلة. وهو يهدف إلى إثبات أن اليهود هم شعب أصلي في الشرق الأوسط، حيث عاشوا في المنطقة بشكل مستمر لآلاف السنين، أي 1500 عام قبل ظهور الإسلام. “إن نطاق وحجم التهجير شبه الكامل لليهود من أحد عشر بلدًا مسلماً، الذي حدث في الجزء الأخير من القرن العشرين، يُعَدُّ من بين أكبر حالات التهجير الجماعي في التاريخ الحديث. لقد تجاهل العالم، لعدة عقود، حوالي مليون يهودي تم تهجيرهم من الأنظمة الشمولية، والديكتاتوريات، والأنظمة الملكية في سوريا، ومصر، ولبنان، والعراق، والجزائر، وتونس، وليبيا، والمغرب، واليمن، وعدن، وكذلك إيران. اليوم، أقل من 1% من هؤلاء اليهود ما زالوا على قيد الحياة”، حسب التقرير.
“لقد تم طردنا من جميع تلك البلدان”، يؤكّد “أبيتبول”، وهو يهودي مغربي تم طرده من بلاده في عام 1967 عندما كان في الثامنة عشرة من عمره. بعدها انتقل إلى فرنسا، ثم استقر في كندا.
وأضاف “أبيتبول” أن الحديث عن طرد ما يقارب مليون يهودي من البلدان العربية لا ينفي السردية الفلسطينية، بل “يوسِّع العدسة لتشمل قصة اللاجئين اليهود”.
وعلى غرار “إيلي عبادي”، تحدث “أبيتبول” عن خسائر المجتمعات اليهودية التي طُردت من البلدان العربية والفراغ الذي تُرك وراءها. وقال: “تركنا الأصول، والأعمال التجارية، وبيوتنا، ومنظمات الطائفة”. وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدها المجتمع اليهودي، فإنه يرغب في أن يقول لقيادات البلدان التي طَردت يهودها: “انظروا ماذا فقدتم! تخيلوا ما كان يمكن أن يحدث لو بقينا في بلدكم وازدهرنا. انظروا إلى ما فعلناه في إسرائيل أو في فرنسا. جئنا وبنينا. ساهمنا في المجتمع. بنينا المنازل. بنينا من جديد.”
ويُعارض “أبيتبول” الحجة “التقدمية” المعاصرة التي ترى في الإرهاب الفلسطيني نتيجة حتمية لإقامة دولة إسرائيل عبر المِثال الذي يقدمه يهود مثله تم”َ طردهم، فذهبوا للنجاح في البلدان التي استقبلتهم، من غير أن يفكروا بالانتقام.
حصل “سيلفان أبيتبول” على شهادة الهندسة، وبنى أعمالاً تجارية، وذهب ليحصلَ على” جائزة يوبيل الملكة إليزابيث” الكندية المرموقة لمساهماته في بلده الجديد. وقال: “هل صرخنا؟ لا. هل بقينا غاضبين؟ لا. حصلنا على تعليم وعملنا بجد. نحن شعبُ الكتاب. واحدة من الأشياء القليلة التي تمكنا من أخذها معنا هي تعليمنا”، على حد قوله.
لكن حتى داخل المجتمع اليهودي العالمي، فإن قصة طرد اليهود من البلدان العربية هي قصة مجهولة إلى حد كبير. السبب في ذلك معقّد، كما شرح “أبيتبول”. ففي أعقاب “الهولوكوست” (الإبادة)، بدت معاناة اليهود المطرودين من الشرق الأوسط أقل مقارنةً بمذبحة واضطهاد ملايين اليهود الأوروبيين، والذين كان العديد منهم يصلون إلى الدولة اليهودية الجديدة في نفس الوقت.
ولكن هنالك أسبابا أخرى وراء إخفاء هذه السردية داخلياً. فوفقًا للخاحام “إيلي عبادي”، كانت دولة إسرائيل الشابة حريصة على إعطاء إنطباع بأن الدفَق الكبير لليهود من البلدان العربية إليها كان بدافع الحماسة الصهيونية. وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن زعماً خاطئاً كلياً، فإن صهيونية يهود بلدان الشرق الأوسط كانت صهيونية روحية ودينية بطبيعتها، وليست صهيونية سياسية.
ويضيف: “كان زعماؤنا الأوائل يريدون أن يتظاهروا بأن اليهود العرب كانوا يأتون طواعية، وليس كلاجئين”. وأضاف: “والواقع أنهم كانوا يؤمنون بـ”صهيون”، ولكن فقط بمعنى أنهم كانوا على صلة بأرض إسرائيل، التي كانوا يفهمونها بوصفها الأرض التي وَعَدَ الرب أجدادَهم بها. كان يهود البلدان يؤمنون بالصهيونية ولكن بالمعنى الروحي، كجزء من كونهم يهودًا، كجزء من مصيرهم اليهودي.”
ثم أن إسرائيل كانت في ذلك الوقت البلد الذي فتح ذراعيه لهم.
في الواقع، قاومت حكومة إسرائيل بشكل عنيد تبنّي الحقيقة لدرجة أنه استغرق الأمر مؤسسة “العدالة ليهود البلدان العربية” عشر سنوات لإقناعها، في عام 2014، بالاعتراف باللاجئين اليهود من الشرق الأوسط من خلال إعلان “يوم اللاجئ اليهودي” (يوم هابليتيم)، والذي يُحتفل به الآن كل عام في 30 نوفمبر.
إن مُمَوّل مشروع “العدالة ليهود البلدان العربية” الطَموح لم يشأ كشف إسمه. وبالإضافة إلى توقيت التقارير الجنائية حول الاستيلاء على أصول وممتلكات المجتمع اليهودي التاريخي في سوريا، هناك درسٌ مهم يمكن تعلمه من التاريخ الحقيقي وغير المزيّف لليهود السوريين الذين يعيش معظم مجتمعهم، الذي يزيد عن 100,000 نسمة، بشكل رئيسي في الولايات المتحدة وإسرائيل.
أحد هذه الدروس هو الفخر بانتمائهم الوطني السور ي.
إن “نوعام هاراري” هو مخرج أفلام مستقل، وممثل، يعيش في بروكلين. ويقول: كلمة “سوري” هي المعرّف الرئيسي لي؛ هكذا أعرّف نفسي، هكذا يراني الناس، وهي ، أيضاً، الطعام الذي أميل إليه، هي الأغاني التي أحبها، هي الموسيقى التي أغنيها، وهي اللهجات الرائجة في الكنيس الذي أرتاده.”
والد “هاراري”، “رالف”، كان يهوديًا سوريًا وُلد في بروكلين. وكانت عائلته قد عاشت في حلب حتى عام 1909، عندما جاء جده إلى الولايات المتحدة وعمل على جلب عائلته إليها. أما والدته، “مريم”، فهي إسرائيلية. وبينما يشعر :هاراري: أيضًا بارتباطه بإرثه الإسرائيلي، فإنه يقول أن قلبه وروحه سوريان. ويضيف أنه عندما كان يافعاً، كان يشعر أنه “عربي أولاً، يهودي ثانيًا”. وهو يضحك وهو يعتبر كيف تغير العالم بشكل جذري خلال بضعة عقود فقط منذ ذلك الحين، ملاحظاً أن كلامه يبدو غير مفهوم اليوم.
يصبح “هاراري” عاطفيًا عندما يتحدث عن تراث والده وتاريخه وتاريخ عائلته. وقال: “لم أبدأ إلا في وقت لاحق من حياتي في فَهم أن كوني يهودياً سورياً يعني أنني مواطن من فئة دنيا”. ويضيف: “كان الطردُ بطيئًا ومتعمّدًا، وبغموضٍ متعمد. لقد أُرغمنا على الشعور بأننا غير مرتاحين. وكانت هنالك أعمال شَغَب معادية لليهود. وكان من الصعب القيام بالأعمال التجارية. واجهنا قلوب “فرعون” القاسية”، على حد تعبيره، مستخدمًا استعارة من الكتاب المقدس. ويضيف: “قيل لنا، ‘لا يمكنكم مغادرة بلادي!’ ثم ‘اخرجوا من بلادي!'”
كان طرد يهود سوريا بالفعل “نكبةً” من نوع ما، كما قال “هاراري”، مستخدمًا الكلمة العربية “نكبة” التي يستخدمها الفلسطينيون عادة للإشارة إلى تهجير اللاجئين الفلسطينيين خلال حرب الاستقلال الإسرائيلية. وقال: “طردت البلدان العربية مليون يهودي على مدار المئة سنة الماضية. مدهش بالنسبة لي كيهودي سوري أن أدرك ذلك.”
وفي ما يمثّل تاكيداً لأقوال المغربي الأصل “أبيتبول”، فإن “هاراري” يصف كيف بنى اليهود السوريون مجتمعات مزدهرة في بروكلين وفي الجانب السفلي من جزيرة مانهاتن، وفي مدينة “ديل”، بنيو جيرسي، وأماكن أخرى. ويقول إنه عندما كان بالغًا، فَهمَ ضرورة تلك الوصايا التي كانت تعطى للأطفال السوريين للزواج فقط من يهود سوريين للحفاظ على ثقافتهم في الشَتات.
عندما سُئل عن أكثر شيء يجعله فخورًا بكونه يهوديًا سوريًا، أجاب حاراري على الفور: “نحن يهودٌ من مَهد الحضارة. عاش اليهود في سوريا لقرون عديدة. وحينما يُقال لنا، كَشَعب، أن نعود إلى بلادنا فإنني أجد صعوبةً في فهم ما يعني ذلك لأن الواقع هو أنه تم طردُ شعبي من بلادنا. أنا فخور بإرثي العربي. أنا فخور بطعامي العربي. نحن شعوب نحب الطعام الحار، مثل شعوب أميركا اللاتينية”.
لقراءة النص الأصلي بالإنكليزية:
Syria tried to erase its Jewish history, but the fall of Assad has illuminated it again