كأي حكومة تحترم نفسها وتشحذ المصداقية أمام شعبها فتهيء الأرضية بإتقان قبل إطلاق مشاريعها الحالمة، قامت حكومتا سنغافورة وكوريا الجنوبية، اللتان تعتبران على رأس قائمة الدول المستفيدة من المنجزات التكنولوجية الحديثة في برامجها التعليمية، في عام 2007 بالإعلان عن أنه لن ينعطف العقد الأول من الألفية الثالثة إلا ومدارسهما مجهزة بنطاقات ألـ “واي فاي”، ومناهجها التعليمية محمـّـلة بالكامل داخل الأجهزة اللوحية الرقمية، وبالتالي يغادر طلبتهما بيوتهم إلى دور العلم دون حملهم للحقائب المدرسية الثقيلة المحشوة بعشرات الكتب والدفاتر والكراسات والملفات، من تلك التي لطالما أثقلت كواهل الصغار والشباب وتسببت لهم في العديد من الأمراض والآلام العضلية المبرحة.
وهاهو عام 2011 لم ينتصف بعد، وإلا هاتان الحكومتان الآسيويتان تبرهنان للعالم، ليس فقط وفاءهما لوعودهما، وإنما أيضا قطعهما لأشواط كبيرة في مجال البنى التحتية الرقمية، وبما يجعلهما أكثر تفوقا على دول العالم الأول، وأكثر قدرة على منافسة أوروبا والولايات المتحدة الإمريكية كمقصد تعليمي إستثنائي. وبهذا تحققت النبوءة التي أطلقها قبل نحو عقد من الزمن البروفسور “سام هان” الخبير في شئون إستخدام التكنولوجيات الحديثة في التعليم، والأستاذ في جامعة “سيتي” في نيويورك، والتي قال فيها أن بعض الدول الآسيوية سوف تتجاوز حتما كل الدول الغربية في ما خص إستخدامات التكنولوجيا الحديثة، مثل الإنترنت ووسائطها، في مجال التعليم، على الرغم من أن الإنترنت إختراع غربي.
فقبل أيام معدودة أعلنت سنغافورة وكوريا الجنوبية أنهما أدخلتا الأجهزة اللوحية الرقمية في حياة طلبتهما من الجنسين، مدشنتين بذلك ما يمكن إعتباره ثورة تعليمية حقيقية، وهل هناك ثورة في قطاع التعليم بجميع مستوياته أكثر من أن تختفي الكتب والكراسات والأقلام نهائيا من حياة الطلبة، ويـُستعاض عنها بجهاز من الصناعة المحلية قادر على حفظ المناهج والدروس والفروض داخل شاشة صغيرة يمكن فتحها وتعديل ما بها والإضافة إليها بلمسة أصبع أو نقرة زر؟
ولئن رحب الطلبة في البلدين بهذا الحدث، ورأوا فيه وسيلة يمكنهم من خلالها تعليم أنفسهم بأنفسهم، ونيل حرية أكبر في الإختيار والبحث، والتحرر من الإعتماد على المدرس والصفوف الدراسية ووسائل الإيضاح التقليدية، فإن بعض المعلمين، من أمثال “مارك شون” مدرس الفيزياء وتكنولوجيات الإعلام في ثانوية “نانيانغ” للبنات في سنغافورة، حذر من إحتمالات لجؤ الطلبة إلى إستخدام أجهزة الـ “الآي باد”، التي مولتها الحكومة عبر تقديم إعانات مالية لأولياء الأمور، في أمور أخرى غير ذي صلة بالدراسة، مثل تصفح المواقع الإلكترونية الترفيهية والتواصل الإجتماعي عبر شبكات “الفيس بوك” و”تويتر”، مشددا على ضرورة إتخاذ الإحتياطات اللازمة للحيلولة دون وقوع مثل هذه الأمور، وللحيلولة أيضا دون إدمان الطلبة على اللوحات الإلكترونية.
والحقيقة التي لا جدال فيها هي أن الأمم الآسيوية تتعلم من بعضها البعض دون أدنى حساسية من أحداث وقعت بينها في الماضي البعيد. فكما أن النهضتين الصناعية والتعليمية في كوريا الجنوبية وسنغافورة قامتا على أساس الإستفادة من تجربة اليابان بـُعيد نفض الأخيرة لغبار هزيمتها في الحرب الكونية الثانية، فإن إقدام سنغافورة وكوريا الجنوبية على تدشين ثورة الإستغناء عن الحقائب والقرطاسية في المدارس إنما هو إقتباس لما فعله اليابانيون قبل عدة أعوام حينما أطلقوا ما سـُمي بمشروع “مدارس المستقبل”. تلك المدارس التي تعاونت وزارتا التعليم والإتصالات اليابانيتين في تدشينها وتزويد طلبتها بأجهزة الـ “آي باد” مجانا كخطوة أولى، على أن يتلوها مشروع طموح آخر يكتمل بحلول عام 2020 ويهدف إلى منح مثل هذا الجهاز لكل طلبة العلم اليابانيين في جميع المستويات التعليمية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، قامت شركة “توشيبا” اليابانية بالتعاون مع عملاق الميكروسوفت الإمريكي “إنتيل” على إنتاج كمبيوتر محمول صغير الحجم لإغراض التعليم في المدارس تحت إسم “سي إم ون”.
الكثيرون ممن يعرفون اليابان وتقاليدها المتوارثة المحافظة، ولا سيما فيما يتعلق بالضبط والربط في المدارس و تطبيق العقوبات البدنية، وتقديس دور المعلم وتبجيله، توقعوا أن يصطدم إدخال التكنولوجيا الحديثة في المدارس اليابانية بمعارضة شديدة. غير أن الذي حدث كان العكس تماما. فقد رأي التربويون اليابانيون أن في تلك الخطوة فوائد كثيرة للمعلم والتلميذ معا.
في المبررات، قال المعلمون أن إدخال الـ “الآي باد” في المدارس بعد تحميلها بالمناهج الدراسية المحددة لكل مستوى تعليمي سوف يوفر عليهم الكثير من الجهد والعناء. فإضافة إلى أنه سيغني المعلم عن حمل الكتب والكراسات والملفات الضخمة، فإنه سيمكنهم – من خلال إستخدام محركات البحث الإلكترونية العديدة – من إضافة ما يشاؤون من الشروحات اللازمة المستقاة من المصادر العلمية الموثوقة كتابة على شاشات أجهزتهم الصغيرة قبل عرضها على اللوحات الإلكترونية التفاعلية الكبيرة داخل قاعات الدرس. وأضاف المعلمون قائلين أن الفائدة تتجاوزهم لتصل إلى الطلبة، وخصوصا أولئك الذين يمنعهم خجلهم من إلقاء الأسئلة أو تقديم الإجابات أو مناقشة المعلمين.
أما الطلبة فقد أفاضوا في تبيان الفوائد الجمة المتأتية من هذه الثورة التعليمية. فطلبة الرياضيات مثلا قالوا بأنه سيكون في مقدورهم الآن إجراء العمليات الحسابية والهندسية، ونقل الأرقام يمينا ويسار، وتعديل خطوط وأضلع الأشكال الهندسية وزاواياها وتحريك أطراف المعادلات الجبرية باللمس، بدلا من الشطب المتكرر أو تمزيق الورقة تلو الورقة مثلما كان يحدث في الماضي. وطلبة الفيزياء والأحياء قالوا أنه سيكون بإمكانهم أن يكتشفوا الكثير من أسرار الظواهر الطبيعية والكونية، وما يختفي خلف كل جزء من أجزاء جسم الإنسان أو الحيوان أو النبات، وكيفية تحمل وتأثر هذه الأجزاء بما يحيط بها، من خلال كبسة زر أو بمجرد اللمس. و أما طلبة اللغات الأجنبية فقد أعربوا عن سعادة مضاعفة، قائلين أن الأجهزة اللوحية الرقمية ستوفر لهم خاصية الإستماع إلى اللفظ السليم للمفردات الأجنبية بلسان أصحابها، ناهيك عن أنها ستمكنهم من الحصول بسهولة على مرادفات الكلمات وكيفية إستخدامها في جمل صحيحة، وكيفية تصريف الأفعال، في صيغ الحاضر والماضي والمستقبل، وفق الضمائر المختلفة.
بقي أن نقول أن بعض بلادنا العربية- ولا سيما أقطار الخليج العربي – تحاول منذ بعض الوقت الإقتداء بهذه التجارب الرائدة، لكننا إلى الآن لم نجد لها تجسيدا حقيقيا وشاملا على أرض الواقع بدليل مشاهداتنا اليومية للأطفال واليافعين وهم يحملون حقائب مدرسية ضخمة تثقل ظهورهم وعظامهم الطرية. أما في دول العالم النامي المتخلف، ولاسيما في أفريقيا السوداء، فحدث ولا حرج. إذ لا يزال الملايين من طلبة وطالبات العلم محرومين من أبسط الأدوات التعليمية في أشكالها التقليدية، دعك من أشكالها المتقدمة، بل محرومين من صفوف دراسية تليق بآدمية المتلقي.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين