إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
(صورة تاريخية: الجنرال الباكستاني نيازي يوقع وثيقة استسلام الجيش في باكستان الشرقية (بنغلادش حالياً) أمام الجنرال الهندي جاغجيت سينغ أورورا في 16 ديسمبر 1971. كان الجنرال الهندي”يعقوب”، وهو يهودي بغدادي الأصل هو من أعطى قائد القوات الباكستانية 30 دقيقة فقط لاتخاذ قرار الإستسلام)
*
لم يكن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون مبالغا حينما قال في أواخر التسعينات أن جنوب آسيا هو أخطر مكان على وجه الأرض. ففي هذه المنطقة تتواجه دولتان (الهند وباكستان) نوويتان بينهما عداء تاريخي وايديولوجي مستحكم منذ عام 1947، ونزاع مذاك على الأراضي والمياه، وتاريخ طويل من الصدامات العسكرية التي أشعلت حتى الآن ثلاث حروب ونصف (النصف هنا إشارة إلى حرب كارغيل في صيف عام 1999 التي اقتصر ميدانها على “مرتفعات كارغيل” و”خط التماس” بين قوات البلدين في كشمير)، تلقى الجيش الباكستاني في كل منها هزيمة موجعة.
ومن هنا فأن قادة الجيش الباكستاني، سواء كانوا في السلطة أو خارجها، يشعرون بالإهانة، وضرورة الانتقام من الجيش الهندي الذي لم يكتف بهزيمة جيشهم فحسب، وإنما تسبب أيضا في عام 1971 في سلخ الجناح الشرقي للدولة الباكستانية لإقامة ما يعرف اليوم ببنغلاديش. لذا فهم يؤيدون أي تحرك من شأنه تحرير الأجزاء الواقعة من كشمير تحت السيادة الهندية. ومثل هذا التحرك عادة ما تقوم به ميليشيات وتنظيمات اسلامية كشميرية مسلحة.، لعل أبرزها جماعة “عسكر طيبة” المدرجة على قوائم الأرهاب في الهند وبعض الدول الغربية، والتي اعتاد الهنود على تحميلها مسؤولية أي خروقات أو اعتداءات، مع تحميل الباكستانيين تبعات دعمها واحتضانها.
نقول هذا توطئة للحديث عن الهجوم الذي قام به مسلحون، يشتبه بأنهم كشميريون متطرفون، يوم 22 أبريل المنصرم، في منتجع باهالغام الكشميري الخلاب، وأدى إلى مقتل 26 سائحا. وهو الحدث الذي قاد إلى توتر الأوضاع مجددا بين الجارتين اللدودتين وتبادل الإتهامات مع حشد كل منهما لجيوشه في مواجهة الآخر.
والحقيقة أن آخر ما يحتاجه العالم في هذه الظروف الدولية المعقدة، هو اندلاع حرب جديدة في جنوب آسيا، تخلط الأوراق وتوقع الضحايا وتؤخر التنمية وتقطع سبل المواصلات وتؤخر سلاسل الإمدادات وتزيد من إنهاك الإقتصاد الباكستاني.
لكن الذين ارتكبوا مذبحة باهالغام ــ أيا كانوا ــ كانت لهم حسابات مختلفة، ودوافع أشبه ما تكون بدوافع حركة “حماس” في عمليتها يوم السابع من أكتوبر 2023، لجهة إعادة “القضية” إلى الواجهة دون تقدير التبعات الكارثية، خصوصا وأن قضية كشمير توارت كثيرا إلى الخلف في السنوات الأخيرة، ولم تعد على قائمة الاهتمامات الدولية. وبعبارة أخرى كانت عملية بالهالغام مقصودة في توقيتها وأهدافها من أجل تحريك المياه الراكدة في كشمير، وتحذير المجتمع الدولي من نسيان قضية الكشميريين، وإشعار نيودلهي أيضا بأن إحكام قبضتها على الولاية منذ عام 2000 لم ينجح في وأد القضية إلى الأبد، خلافا للمتداول بأن الأجيال الشابة الجديدة من هنود كشمير لم تعد تحركهم العواطف وتخلوا عن فكرة إلحاق وطنهم بالكيان الباكستاني.
ومما لا شك فيه فإن تفاقم الأوضاع بين الهند وباكستان، واحتمال دخول البلدين في حرب جديدة، أقلق ويقلق العالم الذي لا يعيش اليوم أوضاعا سوية ويواجه معضلات وأزمات سياسية غير مسبوقة في فلسطين وأوكرانيا، وأزمات بيئية ومناخية ومائية، وحربا تجارية بين الصين والولايات المتحدة، وتهديدات ضد حركة الملاحة العالمية من قبل حوثيي اليمن. وبعبارة أخرى فإن أي مواجهة عسكرية في جنوب آسيا ستكون له آثار سلبية على الأسواق والتجارة والعملات وطرق المواصلات ومعدلات النمو والتوجهات الإستثمارية، خصوصا إذا ما استحضرنا حقيقة أن الهند خامس أكبر إقتصاد في العالم، وقوة سوقية ناشئة جاذبة للاستثمارات الاجنبية المباشرة، وأحد أهم موردي النفط العالميين، وأحد أهم منتجي البرمجيات على مستوى العالم. وبالمثل فإن الآثار السلبية ستكون أكثر وقعا على باكستان صاحبة الإقتصاد الهش المثخن بالتضخم والديون والروبية الضعيفة، ما يجعلها في حاجة ملحة لمساعدات مالية خارجية ضخمة من حليفها الصيني أو من الجهات الدولية المانحة.
ولعل قلق العالم من حرب محتملة يبدو أكثر وضوحا، إذا ما تذكرنا أن الحروب الباكستانية ــ الهندية السابقة تمّ إحتواؤها بتدخلات دبلوماسية من قبل موسكو أو واشنطن أو بكين، لكن المشهد الجيوسياسي الحالي أكثر تشتتا من ذي قبل، مع انشغال الروس بحربهم في أوكرانيا، وانشغال الأمريكيين بصراعاتهم الداخلية، وانشغال الصينيين بحماية تجارتهم وصناعاتهم ونفوذهم في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي، ما يعني أن شبكات الأمان الدبلوماسية السابقة التي أوقفت الحروب أو منعت توسعها لم تعد موجودة. بل يمكن القول أن انفجار الأوضاع مجددا في منطقة ذات أهمية استراتيجية كبرى كجنوب آسيا سوف يلغي أو يبطيء أو يؤجل خططا ومفاوضات قد تكون في طريقها لحلحلة مشاكل إقليمية أو دولية مستعصية. ولنتذكر في هذا السياق ما حدث في المنطقة نفسها من اقتتال وصراع في عام 1971، والذي بسببه أجَّلَ الرئيس المصري الراحل أنور السادات خططه حول “سنة الحسم”.
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي