إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول الصين، منذ وصوله إلى البيت الأبيض للمرة الثانية، كثيرة، وأحيانا متناقضة ومحيِّرة للمراقبين، لكن الرجل يعي ما يقول، بل هو يتعمد ذلك ضمن سياسة الضغط وترك الخصم في حيرة وقلق وانتظار.
فمن تصريحات هدد فيها الصين بإجراءات انتقامية في صورة رفع الرسوم الجمركية على بضائعها الواردة الى الولايات المتحدة، إلى ترجمة تهديداته إلى واقع أغضب بكين وجعلها ترد برفع الرسوم على البضائع الأمريكية، بل وتدعو الأوروبيين للإنضمام إليها “لمقاومة سياسات الارهاب والإكراه التجارية الأمريكية”. ومن تصريحٍ حول انفتاح بلاده على خصومها التقليديين كالصين، إلى تصريح قال فيه أن الصين تنهب الولايات المتحدة ولابد من إيقافها ومعاقبتها، لكنه معجب بالرئيس شي جينبينغ لأنه “رجل قوي ومتمكن ويحظى بالإحترام في بلاده”. ومن تصريح أطلقه حول زيارة مرتقبة لنظيره الصيني شي جينبينغ إلى واشنطن في المستقبل غير البعيد، إلى تصريح قال فيه أنه لن يجتمع مع الأخير قبل الأول من مارس، وهو موعد انتهاء مهلة حددها ترامب للصين والولايات المتحدة للتوصل إلى اتفاق بشأن التجارة.
وفي آخر تصريح للرئيس الأمريكي، قال، ردا على سؤال حول الأزمة المحتدمة بين أكبر اقتصادين في العالم: “سنعقد صفقة، واعتقد أننا سنعقد صفقة جيدة جدا مع الصين”. واعرب في تصريح آخر عن تفاؤله في التوصل لاتفاق مع الصين في غضون 3ـ 4 أسابيع. وفي الوقت نفسه خرجت تصريحات من بكين تفيد بأن القيادة الصينية منفتحة على الحوار مع واشنطن حول التجارة والرسوم وغيرها، وأن الرئيس شي جينبينغ مستعد للجلوس مع ترامب بشروط مسبقة وواضحة. وكما جرت العادة شملت التصريحات تكرار الحديث عن أن الاقتصاد الصيني منيع ولم يتأثر بإجراءات ترامب، وهو حديث ينطوي على مبالغة فجّة لأن الاقتصاد الصيني العملاق جزء من الاقتصاد العالمي، والأخير تقوده وتهيمن على أدواته الولايات المتحدة. أما عن شروط الصين للحوار، فقد قالت وسائل الإعلام أن بكين تريد من واشنطن أن تخفف حدة خطابها وتحريضها، وتوضح ما تسعى إليه بدقة، وتسمية شخص مُحدَّد لقيادة المفاوضات، بعد أن عيّنت الصين مؤخرا ممثلا تجاريا جديدا.
وهكذا يبدو أن كلا الجانبين استشعرا خطورة الحرب التجارية الدائرة بينهما، وتأثيراتها المدمرة على العالم، واحتمال أن تنجرف الأمور إلى أبعد من كساد عالمي مشابه لكساد الثلاثينات (مثلا أعلن رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، في تصريح أطلقه من شيكاغو، أن التعريفات الجمركية المرتفعة تشكل صدمة ركود تضخمي، وترفع من الأسعار، وتُفقد الوظائف، وتبطيء النمو، وتفشّل أي استراتيجية انقاذ من قبل البنوك المركزية)، فأقدما على خطوات وتصريحات قد تقود إلى “صفقة” ما. لكن الصفقة المحتملة قد تُفسدها تقلبات ترامب ونوبات الغضب التي تصيبه والتي رأيناها في قراره برفع الضرائب على السلع الصينية بسرعة من 10% إلى 145%. أو قد يحول دونها التيار المتشدد في إدارته.
وطبقا للعديد من المراقبين، فإن الجانبين سيسعيان في أي مفاوضات بينهما، إذا سارت الأمور على ما يرام، إلى صفقة تحفظ ماء وجه كليهما. وهنا يمكن لليابان أن تقدم بعض الرؤى من تجربتها الناجحة مع ترامب في فترة رئاسته الأولى، حينما نجح رئيس الحكومة اليابانية الراحل “شينزو أبي” في الخروج من محادثاته التجارية الثنائية مع ترامب حول صناعة السيارات بالتعادل (لا غالب ولا مغلوب). وعلى الرغم من أن تلك الصفقة الأمريكية ـ اليابانية لم تصمد، ونقضها ترامب في فترة رئاسته الحالية، إلا أن الزعيم الياباني الحالي “شيغيرو إيشيبا” يحاول انقاذها بأقل الخسائر، ويسعى ممثلوه التجاريون إلى إحراز اتفاقية جديدة مخففة لا تتضمن تنازلات كثيرة.
والحقيقة أن الرئيس شي جينبيغ، سيكون في موقف أفضل، في أي مفاوضات مع نظيره الأمريكي. فترامب، مثلا، يخوض حاليا مواجهة مع البنك الإحتياطي الفيدرالي، وهو ما يضعف موقفه. كما أن الدعاية الصينية نجحت في تصويره كزعيمٍ يسعى إلى تدمير العالم وغرقه في فوضى، مقابل تصوير شي جينبينغ كزعيم يدافع عن التجارة العالمية القائمة على القواعد والمعاهدات القانونية. إلى ذلك، نجد أن ترامب خائف على انخفاض شعبيته، بعد أن تسببت سياساته في تقلبات حادة في سوق الأسهم الأمريكية، وهو أمر لا يواجهه الرئيس الصيني. وأخيرا فإن ما يُضعف موقف ترامب أيضا هو هروب رؤوس أموال هائلة من الولايات المتحدة بسبب خوف المستثمرين مما هو قادم، بينما النظام الشيوعي الصارم في الصين يمنع حدوث ذلك.
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي