إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
تشهد المصانع الأربع المختصة بتكرير المعادن الثمينة في البلاد نشاطًا مكثفًا في ظل سعي محموم وراء السبائك، نتيجة حالة عدم الاستقرار الدولي
كما هو الحال غالباً في سويسرا، يتم إخفاء المليارات جيدا! يدور المشهد في منطقة صناعية وتجارية متواضعة المظهر في مدينة “مندريزيو” (Mendrisio)، الواقعة في أقصى جنوب الاتحاد السويسري. تقع هذه المدينة على مسافة متساوية من بحيرتي “لوغانو” (في الجانب السويسري) و”كومو” (في الجانب الإيطالي)، وتتميز بقربها من إيطاليا التي توفر 80% من اليد العاملة. يمكن رؤية مخازن المصانع، ومتجرٍ ضخم لأدوات الصيانة المنزلية، ومحامص قهوة تنبعث منها روائح عطرة، وكل ذلك في مشهد عشوائي. لكن في تلك المنطقة أيضاً، تختبئ شركة “أرغور-هيرايوس”(Argor-Heraeus)، وهي فرع من مجموعة “هيرايوس” الألمانية المتخصصة في المعادن النفيسة والخاصة، في مكان شديد الحراسة. المُجمّع مخفي خلف جدار خرساني يبلغ ارتفاعه 4 أمتار تعلوه أسلاك شائكة، وبابه الوحيد يشبه باب السجن.
المادة الخام التي تُعالج داخل هذا المجمع ليست من الأنواع التي تجدها في الأسواق العادية. يقول “روبين كولفينباخ”، أحد المدراء العامين للشركة: “لدينا هنا قدرة على تكرير 1380 طناً من الذهب سنوياً، أي ما يعادل نحو 4 أطنان يومياً، ولكن هذا لا يعني أننا نعمل بكامل طاقتنا طوال الوقت، رغم أننا مررنا بثلاثة أشهر نشطة جداً مؤخراً”. وقد رفصض “كولفينباخ” ان يكشف كمية أو قيمة الذهب الفعلي الذي يمرّ بين جدران المصهر.
لكن يكفي ضرب هذا الحجم بسعر الأونصة الحالي، الذي بلغ رقماً قياسياً يقارب 3300 دولار (2900 يورو) يوم الاثنين 28 أبريل، لكي نفهم أن “أرغور-هيرايوس” تتعامل مع ما يقارب مليار يورو من الذهب كل ثلاثة أو أربعة أيام. ويضيف المدير: “يجب أن أبدد بعض الأوهام، فهذا الذهب لا يخصنا، نحن مجرد ‘مستأجرين’ مؤقتين له حتى نُجري عليه بعض التعديلات. دورنا هو تنقيته بنسبة نقاء تبلغ 99.99%، وهو ما نطلق عليه اسم “الذهب الخالص”، ونتقاضى رسماً ثابتاً على كل سبيكة. ورغم ما يبدو عليه الأمر، فإن هامش الربح منخفض جداً”.
مادة رمادية اللون
في الواقع، يتم تسليم كتل كبيرة من الخام مباشرة إلى الشركة من مناجم الذهب في كندا، والولايات المتحدة، وبيرو، الأرجنتين – لكن ليس من روسيا منذ فرض العقوبات في 2022. في هذه المرحلة، تكون المادة الخام خشنة بكل معنى الكلمة، ذات لون رمادي، وتحتوي على شوائب ومعادن مصاحبة، أبرزها الفضة والنحاس، والتي يجب فصلها من خلال التحليل الكهربائي في أحواض من حمض النيتريك. وبعد استخراج الذهب النقي، يُذاب ويُشكل. وكل غرام يتم تتبعه إلكترونياً من لحظة استلامه وحتى مغادرته للموقع. أما الفضة والنحاس الناتجان من العملية، فيتم أيضاً صهرهما وتغليفهما.
وعند خروج السبيكة من الفرن، تصدر صوتاً مكتوماً أثناء إخراجها من القالب، وهي لا تزال ساخنة رغم غمرها في الماء البارد. وزنها: 400 أونصة (11.34 كيلوغرام)، وهو المعيار المعتمد لدى رابطة سوق السبائك في لندن (LBMA)، الهيئة الرئيسية لتوثيق صناعة الذهب. وبسعر اليوم، تبلغ قيمة هذه القطعة الذهبية التي لا تزال غير مختومة نحو 1.3 مليون دولار. قبل أن تُشحن إلى أمريكا عبر مطار زيورخ، تُحول إلى سبائك بوزن 1 كيلوغرام، وهو النموذج المفضل لدى الأمريكيين.
ومنذ عدة أشهر، ارتفعت صادرات الذهب السويسري إلى الولايات المتحدة بشكل كبير. فبدلاً من 10 أطنان شهرياً في الأوقات العادية، تم تصدير 195 طناً في يناير وحده – أي عشرين ضعفاً. السبب هو خوف الأمريكيين (المصرفيين، المتاجرين، صناع المجوهرات…) من فرض إدارة ترامب رسومًا جمركية على هذا المعدن المطلوب بشدة، سواء من قبل البنوك أو المستثمرين الباحثين عن بدائل للأسهم المتقلبة في الأسواق. وهكذا، لم تسبق لسويسرا أن باعت ذهبها الشهير بهذا الحجم من قبل، ليس حتى بعد انهيار بنك “ليمان براذرز” عام 2008، ولا في بداية جائحة كوفيد-19 عام 2020.
لا تكتفي شركة “أرغور-هيرايوس” بصهر السبائك وتغيير مظهرها أو وزنها حسب طلبات الزبائن، بل تزود أيضاً صناعة الساعات، وتعمل في مجال المجوهرات، وتدير ورشة لصك سبائك ذهبية صغيرة جداً، مثل تلك الدقيقة جداً (10 × 1 غرام) التي تُوضع في قرص من الورق المقوى يُسمى “غولد سيد” (Goldseed). يقول كولفينباخ: “هذا أحد أكثر المنتجات المطلوبة حالياً. مع العلم أن الغرام الواحد أصبح يساوي أكثر من 100 يورو، فإنه يمثل وسيلة لامتلاك نقد دون عملات ورقية. ففي أوقات الأزمات، يحتاج الناس إلى امتلاك بعض الذهب في متناول اليد، تحسباً للطوارئ”.
المختبر هو القلب النابض
في الطابق العلوي من المصهر، يوجد المختبر الذي يُعد القلب النابض للمصفاة، حيث يعمل خبراء معتمدون من السلطات الفدرالية السويسرية. يحدد هؤلاء درجة نقاء الذهب ومصدره. وبفضل التطورات الأخيرة في تقنيات الامتصاص بالأشعة السينية، يُقال إنه أصبح من المستحيل إدخال “ذهب قذر” إلى السلسلة الشرعية. فسويسرا، بوصفها المحور الدولي الرئيسي لسوق الذهب المادي، تحتضن أربعاً من أكبر سبع مصافي للمعادن النفيسة في العالم، ثلاث منها في كانتون تيتشينو الناطق بالإيطالية.
وتبقى سويسرا الدولة الوحيدة التي تمتلك قانوناً خاصاً بهذه الصناعة. ولكن “مارك أوميل” من منظمة “سويس إيد” غير الحكومية يقول “إنها تشريعات متساهلة جداً مع رقابة غير كافية”. ويضيف أن التزامات التصريح فيها عيوب كبيرة: “فيما يتعلق بالمصدر، يتعين على المستوردين ذكر آخر محطة فقط من رحلة الشحنة. لكن الذهب القادم من مناطق النزاع أو الذهب غير الشرعي غالباً ما يتم نقله جواً كأمتعة شخصية، ويصل إلى دبي مثلاً، حيث يتم تسييله وصهره وإعادة بيعه. وعندما يتم استيراده إلى سويسرا، يُسجّل أن مصدره الإمارات العربية المتحدة، رغم أنه قد يكون قادماً من مالي أو جمهورية الكونغو الديمقراطية”.
وتؤكد شركة “أرغور-هيرايوس” أنها لا تستورد الذهب من دبي. وبالنظر إلى الإقبال الكبير حالياً على المعدن النفيس، تراهن الشركة على مستقبل واعد لسلسلة “أخلاقية” لتوريد الذهب حيث يتم استخدام اختبارات “PCR” شديدة الدقة للتأكد من أن مصدر السبيكة ليس بلداً معيناً فحسب، بل ومنجم محدد، وذلك بفضل بصمتها الجيولوجية الفريدة.
ترحمة “الشفاف” نقلاً عن جريدة “لوموند” الفرنسية