أراد الملالي للثورة أن تكون “إسلامية” للاستفراد بالسلطة، وفرض تصوّرهم الخاص على معنى أن تكون الدولة “إسلامية”. وصوّرها الأميركيون، والأكاديميا الغربية والإعلام، بوصفها “إسلامية” لأسباب مختلفة تماماً. فالثورة برهنت على فشل نظرية التحديث Modernization theory وجاء البرهان مفاجئاً، وصادماً، على نحو خاص، لأن دولة الشاه نفسها كانت وسيلة إيضاح للتدليل على صحّة النظرية، ومركزيتها في السياسة الخارجية، وضرورة تعميمها للحيلولة دون استيلاء الشيوعية على بلدان من العالم الثالث، في زمن الحرب الباردة.
لا أجد، الآن، ما يبرر الاستطراد في تفصيل تصوّرات الملالي، وتبريرات الأميركيين النظرية والسياسية، بل التذكير بالعلامات الفارقة، واللحظات الحاسمة، التي وسمت العام 1979 من بدايته، وحتى يومه الأخير، وما كان لها من تداعيات هائلة أثّرت على كل ما جاء بعدها.
بدأ العام، كما أسلفنا، برحيل الشاه، وعودة الخميني بعد أسبوعين، وانتهى بثلاثة أحداث من عيار ثقيل أولها اقتحام السفارة الأميركية في طهران، واحتجاز موظفيها كرهائن في الرابع من تشرين ثاني، وبعد أسبوعين استولى جُهَيمان على الحرم المكي في السعودية، وبعد خمسة وثلاثين يوماً، أي في الخامس والعشرين من كانون أوّل 1979، اجتازت طلائع القوّات السوفياتية الحدود، واحتلت أفغانستان.
نعرف، الآن وبأثر رجعي، ما كان للأحداث المذكورة من تداعيات بعيدة المدى. ولكن من عاشوا تلك الأحداث لم تكن لديهم كفاءة التنبؤ بالمستقبل، ولا القبض على معنى ما يحدث، وكيفية الرد، وما سينجم عن أفعال تمليها اللحظة، أو تبررها غريزة البقاء، من تداعيات قد تنعكس عليهم، وعلى العالم، بطريقة سلبية بعد وقت قد يطول أو يقصر.
ومع ذلك، لا يبدو من قبيل المجازفة القول: إن الذعر كان سمة مشتركة بين الأميركيين وحلفائهم وبعض هؤلاء دكتاتوريات سافرة، وأنظمة ثيوقراطية من مخلّفات القرون الوسطى، خاصة في أطراف العالم العربي، وأن الابتهاج بالمسيرة الظافرة للتاريخ كان سمة مشتركة لدى خصومهم في المعسكر الآخر.
أكتفي، في هذا الصدد، بالإشارة إلى مشهد صوّره محمد حسنين هيكل في كتابه “مدافع آية الله”، على مدخل السفارة الأميركية في طهران، التي شاءت الظروف أن يجول في أرجائها بعد اقتحامها، وتحويل موظفيها إلى رهائن:
“بعض الفتيات اللاتي يرتدين الشادور يقدمن صوراً للإمام وكتباً عن الإسلام والعدالة الثورية، بينما هناك أخريات يرتدين البنطلونات الجينز يبعن كتابات لينين وتروتسكي وكتيبات ماركسية متنوعة”.
لا توجد صورة أكثر إثارة للذعر، في زمن الحرب الباردة، من صورة اجتمعت فيها دلالات “إسلام” التصق بشيء صار اسمه “العدالة الثورية”، جنباً إلى جنب، وفي مشهد واحد مع “لينين، وتروتسكي”. والأدهى والأمر أن يحدث هذا وذاك على يد نساء سافرات بالجينز، وبالزي الشعبي الإيراني، وأين؟ على باب السفارة الأميركية، زعيمة المعسكر الغربي، وحارسة المحافظين، وأنظمة دكتاتورية وثيوقراطية من مخلّفات القرون الوسطى، وأين؟ في إيران ركيزة الأميركيين الاستراتيجية، والقوّة الإقليمية الكبرى في الخليج، أهم مصادر الطاقة في العالم.
لن يتمكن أحد من العثور عمّا يفسِّر ويبرر الفزع الذي اجتاح قوى مختلفة، في مناطق مختلفة من العالم، بما فيها الحواضر العربية، والهوامش الصحراوية، دون العودة إلى مشهد كهذا، بكل ما اجتمع فيه من دلالات تبدو أشد فتكاً وخطورة حتى من اليورانيوم المُشع. ومع ذلك، وبما أن التاريخ يملك حساً لاذعاً بالفكاهة، فمن الإنصاف القول أن الكثير من دواعي البهجة في المعسكر الآخر، حتى وإن بدت مبررة في حينها، لم تكن صائبة بل نجمت عن تأويلات، لن يعرف الناس إلا في وقت لاحق، أنها مجرّد شطحات.
وتحضرني، في هذا المقام “الأساطيل” وهي قصيدة شائعة لمظفّر النوّاب، تختزل قدراً لا بأس به من المشاعر السائدة في حينها. وقد أشاد فيها بجُهَيمان قائد المتمردين في الحرم المكي، وأنتقد “اليسار الغبي” لأنه لم يناصره كما يجب: “لم يناصرك هذا اليسار الغبي/ كأن اليمين أشد ذكاءً/ كيف.. كيف يحتاج دم بهذا الوضوح/ إلى معجم طبقي لكي يفهمه”.
يصح القول من حسن الحظ، بأثر رجعي طبعاً: إن “اليسار” لم يناصر جهيمان! فمن الحماقة، وعمى البصر والبصيرة، النظر بطريقة إيجابية إلى آلام المخاض، التي صاحبت ميلاد الأجنّة الأولى للدواعش في نهاية العام 1979، بعد سبات استمر قرابة نصف قرن. ومع ذلك، فإن التوقّف عند “ذكاء” أو “غباء” اليسار أقل أهمية بكثير من التفكير في ردود الأميركيين على ما أثار ذلك المشهد المثقل بالدلالات، على باب السفارة الأميركية في طهران، من فزع، وما استدعى من سياسات.
وفرضيتي الأساسية، في هذا الشأن، أن ثمة ما يبرر إضافة العام 1979 إلى شهادة ميلاد الدواعش. ففي معرض الرد على، ودحض، وتفكيك، وهدم، وتشويه، كل ما في المشهد على باب السفارة من دلالات، نشأت حاجة مُلحة وموضوعية لاستدعاء أيديولوجيا من فصيلة “الجهل المقدّس: زمن دين بلا ثقافة” بلغة وتشخيص “أوليفيه روا” في كتاب يحمل العنوان نفسه. وقد كان في جينات الوهابية ما يكفي لا لإجهاض وتدمير ما في المشهد من دلالات وحسب، ولكن لشن الحرب على العالم، أيضاً. وهذا موضوع معالجة جديدة في مشوار طويل.