(الصورة: عاشوراء في “النبطية”، لبنان، عام 2016!! نعم “النبطية” في “لبنان”!!)
هل تأثرت مناسبة عاشوراء بالعلمانية؟
حينما نشير إلى العلاقة بين عاشوراء والعلمانية، فالقصد من ذلك هو أنّ تطور المفاهيم المعرفية وتطور وسائل المعرفة العلمية أثّرا على مدارك البشر وعلى فهمهم للأمور، ما أدى إلى أن يصبح الإنسان علمانيا وحديثا. وبالتالي من الطبيعي أن يتأثر فهم البشر للأحداث التاريخية بهذا التطور.
إذا كانت الجرأة في طرح الأسئلة عن “واقعة كربلاء”، وعدم التسليم، وإنما التمعّن والتفكير مقابل ما يسمعه الناس عن “الواقعة”، وتحريك آلة الشك أثناء الحضور والتفاعل مع المناسبة، باعتبار أن الشك أحد الحقوق الطبيعية للإنسان الحديث، ثم إذا اعتبرنا أن السؤال والشك والجرأة من إفرازات العلمانية، باعتبار أن العلمانية هي سعي للعيش بواقعية وعلمية وبتفاعل مع الحياة، وأن مِن أسس هذا السعي تحريك آلَتَي الشك والدليل تجاه كل ما يقال- هل نستطيع بعد ذلك أن نقول إن السرد التاريخي لـ”واقعة كربلاء” لم ولن يتأثر بالعلمانية؟ هل نحن أمام مرحلة جديدة من التعاطي بين المتحدّثين حول “الواقعة” (الخطباء) وبين المستمعين لهم؟ وهل التفاعل سيجعل موقع الانفعال مع “الواقعة” أقل حضورا؟
كيف سيواجه خطباء عاشوراء الجمهور المتفاعل لا المنفعل، وبالذات الشباب حيث بدأوا بطرق باب الواقعية والعقلانية، فأصبحت الإجابات العلمية المدلّلة ديدنهم ردا على مختلف الأسئلة التي تدور في أذهانهم، ومنها الأسئلة حول الأحداث التاريخية الدينية، كـ”واقعة كربلاء”؟
أم أن الخطباء فهموا ووعوا بأن المرحلة الراهنة لا تنتمي للمرحلة القديمة، مرحلة هيمنة البنيان الثقافي القديم القائم على التلقين والتسليم وعدم السؤال، بمعيّة السرد الخرافي، والخزعبلات والأساطير، وأن المرحلة الراهنة هي مرحلة السرد العلمي لـ”لواقعة”، مما يحمّل الجميع مسؤولية التعاطي معها بصورة بشرية تاريخية لا بصورة أسطورية تتخطى الواقع البشري، ولا بصورة تلقينية تتجاوز الوعي البشري؟
الإنسان الحديث، أو الإنسان العلماني، لديه الكثير من الأسئلة والشكوك بشأن كل ما يُقال ويُكتب، سواء كان ذلك متعلقا بواقعنا الحديث أو مرتبطا بالتاريخ. لم يعد كالإنسان القديم، يقبل الكلام لمجرد أنه غيبي أو لمجرد أن شخصا معينا قاله. كذلك جعلته علمانيته في لهفة للحصول على إجابات راهنة ردا على أسئلته، بمعنى أنه لم يعد يقبل أن تؤجل الإجابات إلى يوم القيامة وإلى يوم الحساب كما يردد الفقهاء ورجال الدين والخطباء.
وإذا كانت بعض نتائج العلمانية تحث على طرح “واقعة كربلاء” بصورة عقلانية تاريخية، يجب حينها الإشادة بالعلمانية في علاقتها بأي سرد جديد للواقعة (إن كان هناك سرد جديد) باعتبار أنها ساهمت أو ستساهم في إنزال السرد من عليائه الخرافي الأسطوري التلقيني غير البشري، لجعله يسير في سكة العقلانية الحديثة وفي سكة الفهم البشري بدلا من السكة الثقافية القديمة.
لذلك، نحن في مرحلة لا بد أن تستقوى فيها العلاقة بين “واقعة كربلاء” وبين نتائج العلمانية وأدوات العلمانية والإنسان العلماني والحياة العلمانية. بل نحن في مرحلة لا بد فيها أن تتأصل العلاقة بين التاريخ، بما في ذلك النص الديني التاريخي، وبين العلوم الحديثة، وأن يتم غربلة هذا التاريخ وفق ما توصل إليه العقل البشري من تطور في المعارف العلمية وفي وسائلها.
فنحن، في ظل المعرفة الحديثة وفي ضوء وسائل العلوم الحديثة، نستطيع أن نسأل أسئلة علمية جريئة حول واقعة كربلاء وعن أسبابها وتفاصيلها، وأن نشكك بصورة علمية وواقعية بكل ما نقرأه ونسمعه حولها، انطلاقا من أن الكثير مما يقال والكثير مما كُتب لا يمت بصلة للعقل البشري ولا لطبيعة الإنسان الحديث.
نحن على سبيل المثال نستطيع (أو يجب) أن نسأل مثل هذه الأسئلة: ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ الإمام ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ بن علي ﻗﺪ “ﺃﺧﻄﺄ” ﻓﻲ قراراته فيما يخص واقعة ﻛﺮﺑﻼﺀ؟ وهل وُجّهت له نصائح بعدم التوجه إلى الكوفة وهو قد “خالفها”؟ وهل كان لديه “ضعف” ﻓﻲ ﺗﻔﻜﻴﺮﻩ ﺍﻻﺳﺘﺮﺍﺗﻴﺠﻲ ﻭﻓﻲ ﺗﻜﺘﻴﻜﺎﺗﻪ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻭﻓﻲ ﻣﻮﺍﺟﻬﺎﺗﻪ ﺍﻟﺤﺮﺑﻴﺔ؟
فإذا ﺍﻋﺘﺒﺮ البعض ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﻣﻘﺪّﺳﺎ، بناء على علاقة ذلك بثقافة العصمة والتلقين استنادا إلى أن الحسين مسدّد من السماء ولا ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ يخطئ، لا ﻳﻤﻜﻦ لهذا التفسير ﺇﻻ ﺃﻥ يقول بأن الحسين لا ﻳﺄﺗﻴﻪ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ بتاتا، وأن جميع الأسئلة الفائتة لا صلة لها بالحسين ولا يجب أن تُطرح. وحينها لن تكون “واقعة كربلاء” ﺑﺸﺮﻳﺔ، ولن يكون الحسين إلا شخصا مقدسا، ﻭﻟﻦ تنفع تجربته الحياة ﺍﻟﺒﺸﺮية بقدر نفعها للشأن الغيبي الأسطوري، وسيكون سلوك ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ قبل خروجه إلى الكوفة ثم في كربلاء ثم مقتله، ﻣﻮﺟّﻬﺎ ﻭﻣﺒﺮﻣﺠﺎ ﻭﻗﺎﺩﻣﺎ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻻ ﺩﺧﻞ ﻟﻠﺒﺸﺮ ﻓﻴﻬﺎ.
ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺍﻋﺘﺒﺮ البعض ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ بشرا، ﻭﺍﻋﺘﺒﺮﺕ ﻛﺮﺑﻼﺀ ﺗﺎﺭﻳﺨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﺣﻮﻝ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﺑﺸﺮﻳﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ، ﻧﻌﻢ ﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺨﻄﺌﺎ، ﻭﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ، ﻭلكن ﺳﺘﺴﺘﻔﻴﺪ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﺗﺠﺮﺑﺘﻪ. وحينها يجوز طرح الأسئلة الفائتة حول الواقعة.
ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﺍﻟﺸﻴﻌﻲ ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﻋﻠﻰ أنه ﻣﻘﺪّس. ﻫﻮ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ غالبية الشيعة ﻟﻴﺲ ﺑﺸﺮﺍ ﻋﺎﺩﻳﺎ، ﻭﺣﺮﻛﺘﻪ ﻓﻲ “ﻛﺮﺑﻼﺀ” ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺣﺮﻛﺔ ﺑﺸﺮﻳﺔ، وذلك أدى إلى ابتعاد هذ الواقع عن العلمانية وعن أدواتها وعن الإنسان العلماني وعن الحياة مسافات كبيرة.
أي أن السرد الشيعي الراهن فصل أي صلة بين “الحسين” وبين الحياة الثقافية الحديثة والعلوم الحديثة، ومن ثم ابتعدت الواقعة عن سكة إنسان اليوم.