كان استحقاقا منتظرا منذ نحو سنتين، ولكثرة ما علق من آمال عليه، بعضها حقيقي وبعضها مزيّف، تحول إلى خشبة خلاص وإلى عصا سحرية من شأنها أن تنتشل اللبنانيين من كل الكوارث التي أغرقتهم فيها المنظومة التي تتحكّم بالبلد منذ عقود.
فماذا أفرزت هذه الانتخابات:
– خسارة التيار العوني، وهو الذي يشكل غطاء مسيحيا مهما لحزب الله، نحو نصف مقاعده النيابية، ما مكّن حزب القوات اللبنانية من التقدّم عليه ليصبح الحزب الأكثر تمثيلا في الشارع المسيحي. وهذه بالمناسبة مسألة عصبوية، تشكل محط تركيز أساسي لدى الطرفين، وتعكس هاجسهما الدائم، ولو لم يتدخّل حزب الله ويدعمه ببلوكات أصوات في عدد من الدوائر الانتخابية المعرّضة للخطر لتحوّلت نتيجة التيار العوني إلى هزيمة مدوية. ناهيك بسقوط كل رموز النظام السوري في لبنان، بدءا من نائب رئيس البرلمان إيلي الفرزلي، مرورا بالزعيم الدرزي الآخر طلال أرسلان غريم وليد جنبلاط، ورئيس الحزب القومي السوري (سابقاً) أسعد حردان الذي خرج حزبه نهائيا من البرلمان، وفيصل كرامي وريث الزعامة الكرامية في طرابلس وآخرين، ما أدى بالتالي إلى عدم تمكّن حزب الله من الحفاظ حتى على الأكثرية النسبية.
– الظاهرة الثانية والأهم، تمكّن ممثلي “ثورة 17 أكتوبر” والحراك المدني من تحقيق إنجاز لم يكن متوقعا حصوله بهذا الحجم عشية الاستحقاق، إذ تمكن من الفوز بـ 15 مقعدا موزّعة على مختلف الدوائر، وخصوصا تلك المحكمة الأقفال، والتي من الصعب خرقها، أي في دوائر الجنوب الشيعية الواقعة تحت سيطرة “الثنائي الشيعي”، حزب الله وحركة أمل، وفي جبل لبنان في دائرة الشوف – عاليه، حيث المنافسة على أشدّها بين لائحة جنبلاط ولائحة كل أطراف الممانعة الذين تجمّعوا في لائحة واحدة. ومع ذلك، تمكّن مرشّحو “17 أكتوبر” من تحقيق خرق في ثلاثة مقاعد، اثنان منها لسيدتين، مقابل تمكّن جنبلاط من المحافظة على مقاعد حزبه السابقة. وكذلك في دائرة بيروت الثانية، حيث استفادت قوى التغيير من عزوف سعد الحريري وتياره عن خوض المعركة الانتخابية، وحصلت على ثلاثة مقاعد في العاصمة، متقدّمة على باقي اللوائح، والأمر نفسه في دائرة بيروت الأولى بمقعدين، احتلتهما سيدتان. ثم في الشمال أيضا، حيث جرى الخرق في مقعدين. ولا بد من تسجيل أمر لافت ومهم في التركيبة اللبنانية، هو توزّع هؤلاء النواب الجدد على مختلف الطوائف، وليس على طائفة واحدة، كما هو التمثيل عادة عند معظم الأحزاب والقوى. وبإمكان هؤلاء الشباب الداخلين حديثا أن يشكلوا تحالفا أو يجدوا إطارا تنسيقيا مع قوى ونواب آخرين ومستقلين يشبهونهم، ويلتقون معهم على أكثر من هدف، ليكونوا أكبر كتلة برلمانية داخل المجلس الجديد. وهذا ما ستحاول كل الأحزاب، سواء في محور حزب الله أو تلك التي في صفوف “السياديين” المعارضين له، أن تمنع حصوله.
أما المفارقة فتكمن في أن هذه الانتخابات، على عكس ما كان ينتظر بعضهم منها، لم تفرز أكثرية محدّدة مع فريق أو آخر، فلا حزب الله تمكن من المحافظة عليها، ولا المحور “السيادي” الذي حقق بمجمله مقاعد إضافية بإمكانه القول إنه يملك الأكثرية، خصوصا أن ممثلي “ثورة أكتوبر” يجاهرون بأنهم سيشكلون طرفا مستقلا قائما بذاته. وهذا ما سيجعل أفق مواجهة الاستحقاقات الآتية غير واضح وشديد التعقيد، سواء في ما يتعلق بتشكيل حكومة جديدة، بعد أن تصبح الحالية بحكم المستقيلة بحسب الدستور، أو في ما يخص انتخاب رئيس للجمهورية بعد عدة أشهر.
فمن سيكون رئيس الحكومة المقبل؟ ومن هو الطرف أو الأكثرية التي ستسميه؟ وأية حكومة سيشكل؟ حكومة أكثرية كما تطالب المعارضة على اعتبار أن من يحوز الأكثرية يحكم والأقلية تعارض، أم المسمّاة “حكومة الوحدة الوطنية” التي يشارك فيها الجميع كما يريد حزب الله الذي بدا متهيبا الحالة الجديدة، وهو يسعى عادة إلى الحصول على أكبر قدر من التغطية لسياسته، وتحديدا الآن، لتوريط المجموعة النيابية الجديدة الصاعدة من رحم معاناة الشارع في لعبة السلطة وقطع الطريق على معادلة العلاقة الجدلية التي تسعى إلى الحفاظ عليها مع نبض الشارع، عبر استمرار التنسيق مع الحراك المدني، والاستعانة به لممارسة الضغط على السلطة.
كما أن عدم تشكيل حكومة يعني بقاء حكومة تصريف الأعمال حتى الانتخابات الرئاسية المفترض إجراؤها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وهذا ما لا يرضاه فريق رئيس الجمهورية ميشال عون الذي يسعى إلى حكومة تكون له فيها الغلبة، لكي يتحكم بظروف الإتيان بالرئيس الذي يرغب. علما أن الرئاسة في لبنان ليست ولم تكن يوما نتاج غلبة، وإنما تسوية يرعاها الخارج الإقليمي والدولي. وخلاف ذلك، فإن سلاح التعطيل هو الأمضى لدى حزب الله الذي استعمله من أجل فرض عون رئيسا عام 2016، بعد أن أحدث فراغا في موقع الرئاسة عبر تطييره، وحليفه التيار العوني، نصاب جلسات انتخاب الرئيس دام سنتين ونصف السنة. وكذلك الأمر في عملية تشكيل الحكومات التي كانت تستمر أشهرا وأشهرا، وبالأخص عندما عطل عون تشكيل إحدى الحكومات ستة أشهر، “كرمى لعيون الصهر” (وهذا كلامه)، لكي يمنح الصهر الحقيبة الوزارية التي يريد، وكانت يومها حقيبة الطاقة الدسمة في الصفقات.
– أطرف ما قام به “الثنائي الشيعي” في ممارسته الديمقراطية في انتخابات رئيس البرلمان الجديد هو إحكام قبضته على كل المقاعد التي تعود للطائفة الشيعية في البرلمان (27 مقعدا) خلال هذه الانتخابات، ما يمكنه من قطع الطريق على احتمال أن تفوز إحدى القوى ولو بمقعد شيعي واحد، ما يجعلها قادرة على ترشيحه لرئاسة المجلس في مواجهة نبيه برّي، على اعتبار أن رئيس المجلس يجب أن يكون منتمياً إلى الطائفة الشيعية. عندها لا يعود أمام الفريق المعارض إلا احتمالان، التصويت لبرّي أو وضع أوراق بيضاء!
– يشكل الفوز الذي حققته لوائح “ثوار 17 أكتوبر” في الانتخابات إنجازا معتبرا، يساهم في إعطاء نفحة أمل للبنانيين الذين كفروا بالسلطة الفاسدة والفاشلة والفاجرة والمافيوزية التي تتحكّم بهم، وبإدارتها الزبائنية والتحاصصية وفي توزيع المغانم، وأعاد لهم نوعا من الثقة بإمكانية التخلص من بعض الوجوه الكالحة والمتسلقة والمرتهنة التي تمكّنوا من شطبها بشحطة قلم في صناديق الاقتراع. إلا أن الأصح أن هذا الإنجاز هو مجرد وهم وجائزة ترضية أو رتوش للمشهد السياسي الذي يخطفه حزب الله الذي لا تنطلي عليه لعبة الديمقراطية، فهو يعرف كيف يجيدها ويتماشى معها، كونه متأكّدا من أن جمهوره منضبط ومرصوص ومؤدلج على وقع التعبئة الإيديولوجية الإيمانية بقوة عليا لا قدرة للبشر عليها. لذلك، فإن حزب الله يمسك بسلاحه جيدا ويُحكم قبضته على القرار السياسي، ويعرف متى يهادن ومتى يصعّد إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .. في إيران أو على إحدى طاولات المفاوضات الإقليمية أو الدولية.