خلال العامَين الماضيَين من الاضطرابات التي شهدها لبنان، عمد حزب الله تدريجيًا إلى قلب معايير ما بعد الحرب في ما يتعلّق بالسياسة التي تنتهجها البلاد تجاه مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والقضية الفلسطينية ككل.
في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان من كل عام، يُنظّم “حزب الله” مسيرة ذات طابع عسكري في الضاحية الجنوبية لبيروت لإحياء ذكرى “يوم القدس”، بمشاركة حاشدة لمناصريه يتخلّلها استعراض لنماذج طائرات وأسلحة المقاومة. لكن الحدث كان مختلفًا هذه المرة، لأنه تم بتنسيق أكبر مع حركة حماس وتزامن مع وجود بعض قيادات الحركة في البلاد. ويعكس ذلك تبدّل دور لبنان التغيّر حيال الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ويعيد إلى الذاكرة مرحلة السبعينيات والثمانينيات المضطربة والمدمّرة.
منذ عام 2019 الذي شهد احتجاجات واسعة النطاق نتيجة الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية، حوّل حزب الله دور لبنان في هذا الصراع على ثلاثة مستويات أساسية: أولاً، أصبحت البلاد ملاذًا آمنًا لمسؤولي حركة حماس الذين لجأ الكثير منهم إلى بيروت بعد أن غادروا قطر وتركيا بسبب التطورات السياسية الإقليمية. ولأن حماس أبدت دعمها للانتفاضة السورية في أيامها الأولى، اضطرّ قادتها إلى مغادرة دمشق حيث كانوا يتمركزون، واستقر معظمهم في الدوحة واسطنبول. كذلك، تسبّب موقف حماس بإحداث تشنّجات في علاقاتها مع حزب الله وإيران، إلى أن طرأ مؤخّرًا تغيّر في هيكلية قيادة التنظيم، من خلال صعود نجم يحيى السنوار المتحالف مع إيران ومحور المقاومة. بعد الحصار الذي فرضه على قطر في العام 2017 خصومها الخليجيون وحلفاؤهم الإقليميون، المعادون لحركة حماس، لجأ نائب رئيس الحركة، صالح العاروري، إلى بيروت. لم تعد الدوحة قادرة على استضافة قادة حماس النشطين، لأنها كانت تحاول صدّ الادّعاءات القائلة بأنها تدعم التنظيمات الإرهابية. وقد وضع التقارب الأخير بين تركيا وإسرائيل أنقرة في موقف مماثل، إذ تشير تقارير إعلامية إلى أن إسرائيل اشترطت عليها التوقّف عن استضافة نشطاء حماس، ما أدّى إلى طرد عشرة نشطاء من الأراضي التركية.
بغضّ النظر عن مدى صحة هذه المعلومات، باتت بيروت مؤخرًا مقرًّا لشخصيتَين قياديتَين إضافيتَين في حماس، بعد مغادرتهما تركيا، وهما خليل الحية، العضو في المكتب السياسي لحركة حماس والمسؤول عن العلاقات الإسلامية والعربية فيها، وزاهر جبارين، نائب رئيس حماس في الضفة الغربية والمسؤول عن ملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. إضافةً إلى مسؤولي “حماس”، يستقر زياد النخالة في بيروت، وهو أمين عام حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. وعلى غرار حماس، تُعتبر حركة الجهاد الإسلامي نشطة بشكل خاص في قطاع غزة الذي يشهد اشتباكات مع إسرائيل بشكل دوري.
ثانيًا، يبدو أن حماس تعمد للمرة الأولى إلى بناء وجود عسكري في لبنان. وقد أصبح هذا الأمر أكثر وضوحًا بعد انفجار مستودع أسلحة تابع لحركة حماس في مخيم البرج الشمالي بالقرب من مدينة صور الجنوبية في 12 كانون الأول/ديسمبر 2021. وأسفر الانفجار عن مقتل حمزة شاهين، أحد كوادر الحركة. وعلى الرغم من أن حماس نفت أن يكون موقع الانفجار مستودعًا عسكريًا، فإن بيان النعي الذي أصدرته لشاهين ذكر أنه “استشهد في مهمة جهادية”. واللافت أن الانفجار سبقه تقرير إعلامي إسرائيلي زعم في 3 كانون الأول/ديسمبر أن “حماس أنشأت بهدوء فرعًا لبنانيًا لحركتها التي تتّخذ من قطاع غزة مقرًّا لها، ويقع هذا الفرع في مدينة صور على الساحل اللبناني”.
وتحدّث التقرير نفسه عن تدريبات يتلقّاها مقاتلو حماس في لبنان بتوجيه من حزب الله. وإن كان ذلك صحيحًا، قد يفسّر مقتل ثلاثة عناصر من حماس جرّاء إطلاق نار خلال تشييع جثمان شاهين بعد الانفجار. ونسبت وسائل إعلام لبنانية الهجوم إلى فصيل مرتبط بـحركة “فتح”. وعلى الرغم من المصالحة واحتواء التوترات على ما يبدو، من شأن أي محاولة تقوم بها حماس للسيطرة على المخيمات الفلسطينية في لبنان أن تزعزع ميزان القوى بين مختلف الفصائل. لا تزال “فتح” وتفرعاتها القوة المهيمنة في المخيمات، على الرغم من نمو بعض الفصائل الإسلامية خلال السنوات القليلة الماضية. في الواقع، تتحدث مصادر إسلامية فلسطينية ولبنانية عن وجود أكبر ونشاط أوسع لـ”حماس” في المخيمات، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى التنسيق القائم بين الحركة و”حزب الله”. وقد نسبت إحدى وسائل الإعلام اللبنانية المحلية إلى “حماس” هجومًا صاروخيًا منفردًا على إسرائيل مؤخرًا، على الرغم من أنها لم تقدّم أدلة تُذكر على ذلك. مع ذلك، تتطابق هذه الهجمات مع الخطاب الأخير للحركة بشأن نزاع أوسع لا يقتصر على قطاع غزة فحسب.
ثالثًا، لقد تغيّر دور لبنان أيضًا على مستوى التنسيق بين حماس وحلفاء إيران في المنطقة – لبنان والعراق، وبدرجة أقل، سورية واليمن. يُعتبر حزب الله محوريًا في هذا المجهود التنسيقي، على الأقل في ما يتعلق بالفصائل السياسية العسكرية العراقية، التي أرسل قادتها رسائل دعم للفلسطينيين من المنطقة الحدودية اللبنانية-الإسرائيلية التي قاموا بزيارتها في العام 2017 وهي تُعتبر معقلًا لحزب الله. وذكر العاروري، أحد قادة “حماس” المتمركزين راهنًا في بيروت، في مقابلة أُجريت معه الشهر الماضي ما مفاده: “يجب أن نرسم خطوطاً تحت ما قاله ]الأمين العام لحزب الله حسن[ نصر الله في خطابه، إن [الانتهاكات الإسرائيلية في] القدس يمكن أن تؤدي إلى حرب إقليمية”. كان نصر الله ألقى هذا الخطاب في أيار/مايو 2021، عقِب اشتباكات بين الإسرائيليين والفلسطينيين أثارها الإجلاء القسري للفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية المحتلة على أيدي الإسرائيليين. قال نصر الله: “عندما تصبح المقدّسات في خطر فلا معنى للحدود المصطنعة”. هذه أيضًا سمة متكررة في التحليلات الأمنية الإسرائيلية التي تشير بشكل متزايد إلى أن إسرائيل لن تواجه على الأرجح مقاتلي حزب الله فحسب، بل أيضًا “مجندي حماس” في جنوب لبنان خلال أي جولة صراع مستقبلية.
داخليًا، فتحت استضافة حزب الله لحركة “حماس” وخطابها المتواصل عن جبهة موحّدة جراحًا قديمة. ففي العام 1975، غرق لبنان في مستنقع الحرب الأهلية بعد أن أصبح قاعدة للمقاتلين الفلسطينيين في أعقاب طردهم الدموي من الأردن في العام 1971. ولهذا السبب، أثارت زيارة القيادي البارز في حماس إسماعيل هنية إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان في صيف العام 2020 الكثير من الجدل، إذ تذكّر بعض اللبنانيين تجارب عاشوها بعد أن استقر ياسر عرفات وزعماء فلسطينيون آخرون في البلاد خلال السبعينيات والثمانينيات.
يرتبط النهج الجديد لـ”حزب الله” تجاه “حماس” أيضًا بالسياسة الخارجية غير المتّسقة للدولة اللبنانية، على ضوء التدخلات الخارجية والقدرات العسكرية المتزايدة للتنظيم. وقد ظهر هذا الأمر بشكل واضح منذ اتّخاذ الحزب قرار المشاركة في النزاع السوري في العام 2012، ما فاقم الانقسامات في لبنان الذي سعت حكومته إلى إبقائه في منأى عن الأوضاع المتدهورة على الجانب الآخر من الحدود.
إضافةً إلى ذلك، أشعلت استضافة حزب الله” لمجموعات معارِضة خليجية، أنشأ بعضها وسائل إعلام في لبنان وعقد أحيانًا مؤتمرات حظيت بتغطية إعلامية واسعة، أزمة دبلوماسية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، انتهت مؤخرًا بعد مبادرة كويتية ناجحة. مع ذلك، تُعتبر سياسة “حزب الله” حيال “حماس” أكثر خطورة وربما أكثر ضررًا، ولا سيما أن تردّي الأوضاع الاقتصادية والمالية في لبنان يجعله البلد بأسره أكثر هشاشة. ونظرًا إلى أن لبنان دولة منقسمة وممزّقة، سيؤدّي أي صراع ينشب بين مجموعات محدّدة وإسرائيل على الأراضي اللبنانية إلى عواقب وخيمة حكمًا.