التشبيه الذي لجأ إليه رئيس الحكومة اللبنانية حول عيد الاستقلال يفتقد الحساسية التي كان من المفترض أن يتحلّى بها الرجل بحكم موقعه في السلطة، وفي الأعمال، وبحكم علاقاته وتجواله في الداخل وفي الخارج.
باستثناء هذه السقطة الذكورية، والتي ألهت مواقع التواصل الاجتماعي إلى حين، فإن التشبيه في مكانه. لبنان في احتفاله الاستقلالي كالمطلّق، رجلا كان أم امرأة، العاجز عن الإقرار بأنه فقد ما يبرّر الاحتفال.
عمر لبنان منذ إعلان قيامه كدولة حديثة عام ١٩٢٠ مئة سنة وسنة واحدة. قضى منها ستة وعشرين بوجود عسكري لسلطة الانتداب (الاستقلال جرى عام ١٩٤٣ غير أن الجلاء تلاه بثلاثة أعوام)، ثم أمضى فترة كجمهورية «هشّة» من العام ١٩٤٦ إلى العام ١٩٦٩، والذي شهد تنازلا رسميا، سرّيا في بعض أوجهه، من الدولة عن سيادتها لصالح منظمة التحرير الفلسطينية في المخيمات، وفي منطقة العرقوب المحاذية لإسرائيل.
قد يختلف اللبنانيون حول تاريخ تحول التواجد الفلسطيني المسلح من احتضان إلى احتلال. ولكن مع اندلاع «الحرب الأهلية» أمسى واضحاً أن الآمر الناهي، الفارض لإرادته بقوة السلاح، في جزء كبير من لبنان، ليس الدولة اللبنانية، بل القيادة الفلسطينية، وإن من خلف غشاء شفاف بالٍ للحركة الوطنية اللبنانية، فيما الأحزاب المعارضة لهذا الاستيلاء، والداعمة من حيث المبدأ للدولة، وقعت بدورها بفخ الإدارات الذاتية وفرض أمر واقع فئوي بقوة السلاح في مناطق نفوذها.
دخول الجيش السوري إلى لبنان عام ١٩٧٦، بعد أن كان وجود نظام دمشق متحققاً قبلها من خلال منظمات مسلحة فلسطينية ولبنانية، نقل واقع الدولة في لبنان إلى مصاف الاحتلال الصريح الفعلي، وإن انهمرت الشعارات النافية («شعب واحد في دولتين» وغيرها من المزاعم التي لا تنطلي حتى على من اجترحها). صور الرئيس السوري السابق ونصبه وتماثيله، على قباحتها البصرية، والتي شيّدتها ورفعتها قواته وأتباعه، والتطفل المتواصل في حياة عامة اللبنانيين، مصادرة منازلهم والاغتراف الجشع من ممتلكاتهم، والرذالة لمتكررة إزاء كل من مرّ مضطراً عند جواجز الجيش السوري، ثم الإذلال المتعمد لمن والى نظام دمشق من السياسيين، والاقتصاص الجماعي بالقتل والتعفيش (قبل تداول الكلمة) عند كل اعتراض، ينفي إمكانية تطبيق أي صفة على التواجد السوري الطويل، من ١٩٧٦ إلى ٢٠٠٥، إلا الاحتلال.
قد يكون الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الأراضي اللبنانية، بدءاً بالعام ١٩٧٨، تصاعداً عند العام ١٩٨٢، وإلى العام ٢٠٠٠، أقل مدة زمنية من الاحتلال السوري بقليل (٢٢ عاماً مقابل ٢٩ عاما)، وأقل في المساحة التي اقتطعها من الأراضي اللبنانية. غير أن الأداء الإسرائيلي، في الاستهانة بالمواطنين اللبنانيين حياة وكرامة وممتلكات، ووقاحة ورذالة وسرقات، لم يكن أقل وطأة من الممارسات السورية. خلاف لبنان مع إسرائيل لا يقتصر على ترسيم الحدود، بل ثمة سجل طويل عريض عميق من التجاوزات التي تقتضي الملاحقة القضائية في المحافل المناسبة، بما أن إسرائيل تطرح نفسها كدولة قانون، مهما طال الزمن.
انسحاب إسرائيل لم يأتِ تطبيقا لمبدأ «طهارة السلاح»، والذي تريد الصورة الذاتية الإسرائيلية أن تقنع نفسها بأنها تعتنقه. بل، إذ أنهت العملية الإسرائيلية في لبنان مهمتها بطرد منظمة التحرير من جوارها عام ١٩٨٢، بقيت تؤذي لبنان واللبنانيين كقوة احتلال، بالمباشر وعبر أدواتها، ١٨ سنة إضافية. حجتها أن ثمة من يقاومها، وأنه لا يسعها الانسحاب وتعريض مجتمعها للخطر. هو الخطر الناشئ عن عدم انسحابها. وهو المنطق الدائري الفارغ. وفي هذا الفراغ توطّدت بوادر الاحتلال الإيراني. أوله كان دعماً تاق إليه أهل الجنوب اللبناني لمقاومة المحتل الإسرائيلي، فتغذية لرصيد ورفعاً لصورة «شرف» وطهارة، ثم كلام وخزعبلات للبقاء، كقوّة مسلّحة، بعد انسحاب المحتل الإسرائيلي، خارج إطار حصرية السلاح بالدولة.
الاحتلال الإيراني للبنان مختلف عن سابقاته الفلسطينية والسورية والإسرائيلية. ليس ثمة إيرانيون داخل لبنان، يستعرضون قواتهم ويتراذلون وينهبون ويدمرون. لا بد من الإقرار لإيران بأنها صاحبة الاحتلال الأذكى هنا.
جيشها في لبنان، التابع لها من دون حرج، المموّل منها، والمحاكي في تفاصيله لتشكيلاتها في الداخل الإيراني، جنوده من اللبنانيين، وضباطه من اللبنانيين، وقيادته الميدانية من اللبنانيين. ليس من كل اللبنانيين طبعاً، بل من لبنانيين شيعة، أي من فئة دون غيرها، بل من الجزء المضمون الولاء من هذه الفئة ، الجزء المحصّن بالعقيدة والخطاب، والمكتمل بالتبعية.
غير أن نجاح الاحتلال الإيراني، والمستحق لهذه التسمية موضوعياً بفعل ائتمار القوة القاهرة الغالبة لحزب الله بأمر الولي الفقيه، جهارا و”من فوق السطح” على حد تعبير أمينه العام، لا يتوقف عند اغتراس قوات نظامية خارجة عن سلطة الدولة في مساحات شاسعة من المجتمع اللبناني، بل يتجاوزه إلى الارتكاز على هذا التواجد لفرض الإرادة السياسية المتوافقة مع إيران، باللين والتوريط إذا أمكن، وإلا بالغصب والجبروت، على سائر لبنان.
الاحتلال الفلسطيني جاء ضمن مسعى قيادة شعب طريد لاستعادة حق سلب منه، وإن على حساب آخرين، لبنانيين. الاحتلال الإسرائيلي كان نتيجة حاجة إسرائيل إلى الدفاع عن أهلها، وإن دفع الثمن آخرون، لبنانيون. الاحتلال السوري كان سعياً لتحصين النظام المستبد في دمشق لمقومات استبداده، إزاء مخاطر قد يتعرّض لها عند “خاصرته” اللبنانية، ثم استحال منهبة جميلة وثروة مادية وسياسية باليد، وإن كانت من دماء اللبنانيين وجيوبهم.
أما الاحتلال الإيراني، فليس وليد المصلحة الآنية، بل هو رؤية واستثمار بعائدات مشهودة، داخل لبنان وخارجه، في سوريا والعراق واليمن، ثم في دول الخليج وكافة مناطق الانتشار اللبناني.
حتى في الأعوام القليلة من عمر لبنان المئوي، لم يكن «الاستقلال» كاملاً. الإشارة هنا لا تقتصر على قوات دولية وأجنبية على أراضيه، بل على أن هشاشة نظامه السياسي اقتضت على الدوام توافقات لدول أخرى، الولايات المتحدة، فرنسا، مصر، السعودية، سوريا، إيران، إسرائيل، ضمن «مجلس إدارة» افتراضي جمع بعضها المختلف في الأزمنة السياسية المتوالية للتوافق على الرئاسات اللبنانية.
استقلال لبنان السياسي كان بالتالي دوما منقوصا أو غائبا. ولكن حتى في أعتى مراحل الاحتلالات السابقة، احتفظ لبنان بقدر من الاستقلال الوطني، على مستوى الوعي الجماعي والإرادة العائدة إلى القناعة باستمراره وبأن الغد سيعوّض ما صحب الأمس من أوجاع وآلام.
أما الاحتلال الإيراني والذي ابتدأ متواريا ومستترا ليمسي اليوم أوامر سافرة بالإصبع وتوجيهات وتهديدات، بين التجهم والابتسامة، عبر وسائل الإعلام، فهو نقيض لبنان من حيث الشكل والمضمون، وهو ناقض لبنان بالأفعال، قاتل من يعترضه إن لم يرتدع، ومانع لبنان من النهوض بعد الحروب الصغيرة والكبيرة التي عانى منها.
أن يسعى اللبنانيون، كما يتوجب، إلى التواعي والتنظيم على أمل النتائج الإيجابية، مهما شحّت في الانتخابات النيابية العام المقبل، هو أمر طيب من دون شك. ولكن من الإجحاف تحميل اللبنانيين مسؤولية التفوّق على احتلال، وإن كان بأدوات محلية، مؤيد بالإمكانيات الفائقة لإيران.
ولكن، إذا كان الواقع والمنطق يقتضيان مساهمة دولية رئيسية لتفكيك وقع الاحتلال في لبنان، أو على الأقل لمنع تفاقمه، فإن هذه المساهمة لا تبدو قادمة بالمستقبل المنظور.