(ياسر عرفات وبيل كلينتون وهيلاري كلينتون وسهى عرفات يفتتحون مطار غزة الدولي)
قبل ان أتكلم عن الحياة في غزة، يجب على القارئ ان يلاحظ ان هذه الذكريات قد حدثت في عامي ١٩٩٤، ١٩٩٥، لذلك فقد تكون الحياة اليوم في غزة أفضل او أسوأ، فهذا ما لا أستطيع ان اجزم به. ولكن يمكن لبعض القرّاء الذين يعيشون في غزة ان يقارنوا بين الحياة في غزة اليوم والحياة في غزة منذ اكثر من ربع قرن.
…
بصفة عامة وجدت ان الحياة في « غزة »، والحياة في مخيمات « غزة » اكثر قسوة وذلك بالمقارنة مع الحياة في القاهرة. فأهل « غزة » محاصرون بين مطرقة إسرائيل (تلك المطرقة الثقيلة والتي تضرب بقسوة رداً على أي تهديد) وسندان مصر (والتي تخشى من تهريب إرهابيين او أسلحة الى مصر).
…
اقتصاد غزة هو اقتصاد محلي أساساً، يعتمد على الصناعات الصغيرة وخدمات البناء والمطاعم والخدمات الصحية المحدودة. ويعتمد، أيضاً، اقتصاد المخيمات على بعض الإعانات الدولية مثل منظمة « الأونروا « والتي تعتني بإعانة وتشغيل اللاجئين. كما ان هناك هيئات ومنظمات عربية تقدم الإعانات والتي تتغير صعودا او هبوطا حسب العلاقات السياسية بغض النظر عن موضوع رفع المعاناة عن الفلسطينيين، مثلما حدث في أعقاب غزو الكويت من جانب صدام حسين وقام ياسر عرفات بتأييد هذا الغزو، فما كان من دولة الكويت الا انها أوقفت كل الإعانات والمساعدات التي كانت تعطيها لمنظمة التحرير الفلسطينية.
…
غزة تعتمد في اقتصادها الى حد كبير على إسرائيل. فالعملة النقدية المتداولة هي « الشيكل » الإسرائيلي، والكهرباء تأتي من إسرائيل. ومعظم الاستيراد يأتي اما عن طريق مصر او إسرائيل، عن طريق المنافذ البرية، تلك المنافذ التي تفتح وتغلق حسب الأمزجة، وحسب الحالة الأمنية، وكنت أعتقد ان هذا الحصار لا يمكن ان يستمر للأبد لانه غير انساني ولا يوجد أي شعب في العالم يعاني مثل هذا الحصار! وتفاءلت خيرا عندما تم فتح مطار غزة في ٢٤ نوفمبر عام ١٩٩٨ بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وزوجته هيلاري كلينتون، والرئيس ياسر عرفات وزوجته السيدة سهى عرفات.
وتم افتتاح المطار بعد مفاوضات طويلة مع إسرائيل. لكن المطار توقف عن العمل في ديسمبر 2001 بعد أن ألحق الجيش الإسرائيلي به دماراً فادحاً. فقد دمر الجيش الإسرائيلي محطة الرادار والمدرج، لكن ساحة المطار لم تتعرض لدمار بالغ. وقامت بعد ذلك البلدوزرات الإسرائيلي بتمزيق المدرج إلى أجزاء في يناير 2002! وفي أثناء حرب لبنان في صيف 2006 قصفت إسرائيل وخرّبت المبنى الأساسي في المطار. والآن، فإن المطار قد جُرد من محتوياته على يد اللصوص.، وقد بررت إسرائيل تدميرها الكامل لمطار غزة بانه رد على عمليات إرهابية أدت الى مقتل وزير السياحة الإسرائيلي ومقتل أربعة جنود اسرائيلين على أيدي مقاتلي « حماس ».
وكان المطار قد أنشئ بتمويل من اليابان ومصر والسعودية وإسبانيا وألمانيا، وتم تصميمه على يد معماريين من المملكة المغربية، ليكون على شاكلة مطار الدار البيضاء. وقد تم تمويل تكلفة تصميم المطار على نفقة العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني. إجمالاً كلفة المطار حوالي 86 مليون دولار. ولكن للأسف، تدمير المطار أضاع احد الآمال التي كنّا قد عقدناها على بداية النهاية للحصار على غزة والبداية الحقيقية لكي تأخذ السلطة الفلسطينية شكل الدولة.
…
ومدينة « غزة » تم تأسيسها واقعيا بين 1500 ق.م و1400 ق.م. كان من المستحيل البحث عن آثار مدينة غزة القديمة وهي « تل السكن » (Tell Haruba) الذي يقع جنوب المدينة الحالية وذلك لاندثار أي أثر للمدينة القديمة. وذكرت عدة بحوث في 1992 أن هذا المكان، المسمى ذكرت حاليا، قد تم سكنه في 1500 ق.م.
وأول ذكر تاريخي لمدينة غزة كان في فترة حكم « تحتمس الثالث ». وقتها كانت غزة نقطة بداية رحلات الفرعون لتأمين مراقبة « أرض كنعان ». تم ذكر المدينة أيضا تحت اسم هزاتو (Hazattu) وذلك في رسائل « تل العمارنة ». الأهمية الأساسية للمدينة كانت موقعها الإستراتيجي بين مصر و« بلاد كنعان ». وكانت تُعتبر مركزا تجاريا هاما يمد مصر بحاجياتها من الزيت والنبيذ. وتُعتبر غزة مقر إقامة مبعوث ملك مصر المكلف بمراقبة منطقة كنعان. وتعاقب على حكم غزة نفس القائمة الطويلة التي تعاقبت على حكم مصر من قدماء المصريين الى الإغريق الى الرومان الى البيزنطيين الى العرب والعثمانيين والبريطانيين ثم المصريين والاسرائيليين وأخيرا « حماس »!
…
وفي خلال فترة اقامتي في غزة اتيحت لي الفرصة للتعرف على أهلها وطبيعتهم. ومن الملاحظات الهامة التي لاحظتها ان نساء غزة لا يؤمنَّ بتنظيم النسل، فقد تجد أسرة لديها ١٠ وأحيانا ١٤ طفلا! اما الرقم العادي لأطفال الاسرة الواحدة في غزة فهو بين خمسة او ستة أطفال، واعتقد ان الفلسطينيين بصفة عامة وأهالي غزة بصفة خاصة استمعوا الى نصيحة ياسر عرفات بغزو إسرائيل عن طريق كثرة النسل، بينما هو أبو عمار نفسه كانت له ابنة وحيدة! وكان من نتيجة عدم وجود أي خطة لتنظيم النسل أن زاد عدد سكان غزة من ٢٧٠ الف نسمة في أعقاب حرب ١٩٤٨ حتى وصل اليوم الى اكثر من اثنين مليون نسمة. وقطاع غزة لم يتغير في المساحة او في موارده الطبيعية فيما تضاعف سكانه حوالي ثمان مرات مع تناقص مصادر المياه العذبة المطلوبة للزراعة والصناعة والشرب.
ولاحظت التشابه الشديد، ليس فقط في الشكل والمظهر العام، بين أهل غزة والمصريين. ولكن، أيضاً، وجدت ان هناك شبها كبيرا بين طبيعة المصريين وطبيعة أهل غزة، حتى في فوضى الطرق والمرور، وفوضى الأسواق، وفوضى نظافة الشوارع والأماكن العامة. وهناك أيضا تشابه لغوي كبير، ولهجة أهل غزة هي خليط ما بين لهجات أهل العريش وأهل « محافظة الشرقية » المصرية وأهل فلسطين.
اما الأكلات الفلسطينية في غزة فأهمّها، وقد تذوقتها باستمتاع، كانت أكلة « القدرة »، وهي عبارة عن لحم وأرز وبعض البهارات يتم وضعها في وعاء من الفخار تسمى « القدرة »، وتتم عملية الطهي بوضعها في فرن بلدي بطيء لمدة قد تصل الى ١٢ ساعة، وهي بالطبع من اجمل الأكلات الشرقية التي أكلتها في حياتي.
…
اما اطعم أكلة سمك أكلتها في حياتي فكانت في مدينة غزة! فقد كنّا نتمشى يوما على شاطيء غزة ووجدنا شخصا يصاد سمك بشبكة صيد بدائية، وسلمنا عليه وسألنا: “تحبوا تأكلوا سمك طازة؟”، فقلنا بدون تردد “طبعا”! وكنا نعتقد ان لديه سمكا اصطاده من قبل في مكان ما، ولكننا فوجئنا به ينزل داخل البحر بملابسه ويلقي بالشبكة ويعود بعد قليل ومعه ثلاث سمكات « بوري ». وأخذ الثلاث سمكات (وبدون أي أضافات او بهارات) ووضعهم على شواية بدائية بالفحم وبعد ربع ساعة وضع السمك على ورق جرائد قديمة على صندوق خشبي مقلوب جعله طاولة طعام ووضع حول “طاولة الطعام” هذه ثلاث كراسي مصنوعة من جريد النخيل، واكلنا اجمل أكلة سمك في التاريخ!
…
وقطاع غزة ليس لديه أية موارد طبيعية. ليس لديه بترول، او غاز طبيعي، او أي نوع من المناجم، فهو يعتمد اعتمادا كليا على الخارج في كل احتياجاته من الطاقة والمواد الأولية اللازمة للصناعات الصغيرة. كما ان قطاع غزة لا توجد به أية انهار او مصادر للمياه العذبة سوى مياه الأمطار الموسمية في فصل الشتاء وبعض الآبار والتي يشح ماءها الان باستمرار بسبب كثرة الاستهلاك مع التزايد السكاني غير الطبيعي، كما ذكرت، بنسبة ثمانية أضعاف في خلال سبعين عاما.
وهناك أمل، اذا ما أقيمت دولة فلسطين، فلربما تقوم دولة فلسطين بالتنقيب عن الغاز الطبيعي امام شواطيء غزة كما تفعل إسرائيل ومصر وتركيا واليونان وقبرص. وهناك أمل كبير أيضا في نمو السياحة في غزة! فقطاع غزة يتمتع بشواطئ جميلة على البحر المتوسط بطول حوالي ٤٢ كيلو متر، وشواطئ غزة على بعد (« فركة كعب ») من قبرص وجزيرة كريت واليونان وتركيا، ولكن يجب ان تكون هناك خطة لتنمية تلك الشواطيء لكي تكون صالحة لاستقبال السياح من حيث تجهيز فنادق جميلة ووجود أماكن ترفيه ولهو مثل الموجودة في البلاد السياحية. فتطوير شواطيء غزة ممكن ان يكون منجما للذهب بالنسبة للدولة الفلسطينية القادمة.
…
ولغزة أهمية استراتيجية كبرى للدولة الفلسطينية القادمة لا محالة (“شاء من شاء وابى من ابى” على رأي أبو عمار)! وتلك الأهمية تتلخص بأن غزة هي المنفذ البحري الوحيد لدولة فلسطين ومنه سوف تتم كل او معظم تجارة دولة فلسطين.
…
ولي ذكريات طيبة مع أهالي غزة فمعظمهم كرماء، حتى الفقراء منهم كرماء!
ونظرا لسوء المعاملة والتي يعانون منها على الحدود المصرية والإسرائيلية فقد وجدت انهم ابتكروا وسائلهم الخاصة للتعامل والتحايل على سوء المعاملة! فمن كان يتخيل ان أهالي غزة أنشأوا عشرات الأنفاق أسفل الحدود المصرية لكي يسهلوا حركة البضائع بين غزة ومصر حتى ان بعض تلك الانفاق كانت تتسع لسيارة جيب! وطبعا، وللأسف بعض تلك الإنفاق كانت تستخدم لتهريب الأسلحة للقيام بأعمال إرهابية، الامر الذي أدى الى ردمها.
وانا في تقديري ان تلك الانفاق كانت تقوم في الغالب بدور ممتاز لتسهيل التجارة ما دامت الحدود الطبيعية مغلقة معظم الوقت.
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة الثامنة، عرفات يضع حجر أساس مشروع غزة
يستحق سامي بحيري الشكر لأن هذه الحلقة من مذكراته تنصف شعب غزة خصوصاً حينما يقول « أعتقد ان هذا الحصار لا يمكن ان يستمر للأبد لانه غير انساني ولا يوجد أي شعب في العالم يعاني مثل هذا الحصار! » وهو يقصد الحصار الإسرائيلي والمصري، وحصار « حماس أيضاً »! بل، ويبرّر سامي البحيري أنفاق غزة التي « كانت تقوم في الغالب بدور ممتاز لتسهيل التجارة ما دامت الحدود الطبيعية مغلقة معظم الوقت »! وهذا صحيح، وبصراحة فلم أفهم حتى الآن لماذا لا تفتح مصر الحدود أمام شعب غزة خاصة أن ذلك قد يكون المؤشر لسقوط ديكتاتورية حماس. وأنا (وربما قراء كثيرون مثلي) لم أكن أعرف قصة… Read more »