(الصورة: محمد عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني والشهير بـ« ياسر عرفات »)
لم احب ياسر عرفات كثيرا. وخاصة عندما عرفت عن تعليقه على اغتيال السادات يوم ٦ أكتوبر عام ١٩٨١ حيث قال: “نقبّل اليد التي ضغطت على الزناد”!
وأيضا تعجبت لغبائه السياسي الشديد عندما قام بتأييد غزو صدام حسين للكويت في ٢ أغسطس عام ١٩٩٠، الامر الذي أدى الى ترحيل عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعملون في الكويت بعد هزيمة صدام حسين. وأيضا عندما رفض الاتفاقية الممتازة والتي خطط لها الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في نهاية حكمه في يوليو من عام ٢٠٠٠ في منتجع كامب دافيد.
حيث قرر كلينتون في نهاية الاجتماعات المطولة بين ياسر عرفات وإيهود باراك (رئيس الوزراء الإسرائيلي في هذا الوقت)، قرر كلينتون وفريقه وضع خريطة للدولة الفلسطينية الناشئة على أراضي الضفة الغربية وغزة مع شريط من الأرض لربط الضفة بغزة. وفي مقابل هذا الشريط يتنازل الجانب الفلسطيني عن بعض الأراضي التي تم بناء بعض المستوطنات عليها في الضفة الغربية. وبالنسبة للقدس، كان القرار ان تظل القدس مدينة موحدة على ان يكون الجزء الشرقي من المدينة ويشمل المسجد الأقصى تحت إشراف الإدارة الفلسطينية والجزء الغربي تحت إشراف الإدارة الإسرائيلية، ولكن تكون المدينة مفتوحة للجميع مسلمين ويهود ومسيحيين. كانت هذه هي الخريطة المقترحة من جانب الرئيس كلينتون وفريقه، وكان عرض كلينتون بطريقة ان يقبله الطرفان كله بدون أي تعديل او يرفضونه كله. وجاء في مذكرات كلينتون التي نشرها بعد ترك الحكم بأنه كان يتوقع ان يكون رفض خريطته من جانب ايهود باراك والإسرائيليين، ولكنه فوجيء بأن الرفض جاء من جانب ياسر عرفات! وعند مغادرة ياسر عرفات منتجع كامب دافيد، وبعد فشل المحادثات، ذهب للسلام على كلينتون وقال له: « اود ان اشكرك لأنك رئيس عظيم »، فرد عليه كلينتون: « لقد جعلتني رئيسا فاشلا » (حسب ما جاء في مذكرات كلينتون). وكان كلينتون يأمل في نهاية فترة رئاسته ان يتوّجها باتفاق تاريخي ونهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وان يحصل بسببه على جائرة نوبل للسلام. ولكن خاب امله في ياسر عرفات. وكالعادة طبعا ندم ياسر عرفات على رفضه لاتفاق كلينتون بعدها بسنتين في حديث له مع جريدة « هآرتنس » الإسرائيلية،
…
ورغم انتقادي لبعض تصرفات وقرارات ياسر عرفات، الا انني أعتبره بحق « أبو القضية الفلسطينية »، ونضاله سواء المسلح ام السلمي كان وراء إستمرار وجود القضية الفلسطينية على ساحة المسرح العالمي والإقليمي. ولولا الانقسام الحاصل بين منظمة فتح ومنظمة حماس لكان لدينا اليوم دولة فلسطينية مستقلة ذات كيان حقيقي، ولكنا تجنبنا آلاف الضحايا الأبرياء.
ولد ياسر عرفات في القاهرة في شهر أغسطس عام ١٩٢٩ لأسرة فلسطينية. أبوه عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني من غزة، وجدته مصرية. وكان أبوه يعمل في تجارة الأقمشة في حي السكاكيني. وكان الولد السادس لأسرة فلسطينية تتكون من سبعة أفراد. ولد هو وأخوه الصغير فتحي في القاهرة. ونسبه من جهة أمه يتفرع من عائلة الحسيني، التي تعتبر من الأسر المقدسية المعروفة والتي برز بعض أفرادها في التاريخ الوطني الفلسطيني. قضى عرفات مراحل طفولته ومرحلة شبابه الأولى في القاهرة. وعندما كان في الرابعة من عمره (وبسبب قصور كلوي) توفيت والدته زهوة أبو السعود (وقد اطلق اسم والدته زهوة على ابنته الوحيدة من السيدة سهى عرفات).
وبعد وفاة والدته تم إرسال عرفات مع أخيه فتحي إلى القدس، حيث استقرا عند أقارب أمه في حارة المغاربة. وعاش هناك مع خاله سالم أبو السعود لمدة 4 سنوات. وفي عام 1937 عندما تزوج والده بامرأة ثانية في مصر، أخذه أبوه وأخته إنعام ليعيش إلى جانبهما وتحت رعايتهما في القاهرة. وكانت علاقته بوالده تزداد سوءًا في كل يوم، حتى أن ياسر عرفات لم يحضر جنازة والده في عام 1952. وحتى بعد عودته إلى غزة، لم يذهب لزيارة قبر والده، وتقول أخته أن عرفات كان على خلاف مع والده بسبب تردد عرفات على أحياء اليهود في القاهرة وكان عرفات يعلل هذا الأمر بأنه يريد «دراسة عقليتهم» و«التعرف أكثر على عدوه».
أنهى تعليمه الأساسي والمتوسط في القاهرة حيث اكتسب في تلك الفترة لهجته المصرية التي لم تفارقه طوال حياته.
في صباه وشبابه تردد على بعض المنفيين من فلسطين، وأصبح مقربًا من أوساط المفتي أمين الحسيني الذي كان منفيًا في القاهرة، كما تعرف في تلك الفترة على عبد القادر الحسيني وابنه فيصل الحسيني.
كما ذكرت أخته الكبرى إنعام بأن عرفات «كان يشارك في كل المظاهرات، وكنت أجري دائما وراءه لإعادته للبيت»، كما كانت تمنع عنه مصروف الجيب عقابا له غير أن ذلك لم يردعه واستمر في نشاطه. وبعد نهاية مرحلة الدراسة الثانوية قرر الدراسة في جامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة حاليًا)، فالتحق بكلية الهندسة.
في أثناء حرب 1948 ترك عرفات الجامعة، وذهب إلى فلسطين مع غيره من العرب وسعى للانضمام إلى الجيوش العربية المحاربة لإسرائيل. وبعد ذلك حارب مع الفدائيين الفلسطينيين، ولكنه لم ينضم رسميا لأي منظمة. كما قاتل إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين وانضم إلى الجيش المصري في حربه الرئيسية التي كانت في غزة. وفي بداية عام 1949 كانت الحرب تتقدم في الحسم لصالح إسرائيل، وفي تلك الأثناء عاد عرفات إلى القاهرة بسبب نقص الدعم اللوجستي.
وبعد عودة عرفات إلى القاهرة عاد الى الجامعة وواصل دراسة الهندسة المدنية. كما واصل نشاطه السياسي، فتم انتخابه رئيسًا لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة من عام 1952 لعام 1956. وكانت السنة الأولى (1952) لرئاسة عرفات لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة بالاشتراك مع صلاح خلف المعروف باسمه الحركي (أبو إياد). وفي السنة الأولى من رئاسته أيضًا، قامت حركة الضباط الأحرار بالإطاحة بالملك فاروق الأول، وتم تغير اسم جامعه الملك فؤاد لتصبح جامعة القاهرة.في تلك الفترة تعرف على فاروق القدومي الناشط في حزب البعث، وتخرج في عام ١٩٥٦ من كلية الهندسة قسم الهندسة المدنية، واستُدعي إلى الجيش المصري في أثناء العدوان الثلاثي على مصر في نوفمبر عام ١٩٥٦ لفترة قصيرة في الوحدة الفلسطينية العاملة ضمن القوات المسلحة المصرية برتبة رقيب، إلا أنه لم يشارك شخصيا في أرض المعركة. وبعد تسريحه من الجيش المصري هاجر إلى الكويت عام ١٩٥٧ حيث عمل هناك كمهندس، وبدأ في مزاولة بعض الأعمال التجارية. وفي نهاية ذلك العام، شارك في مؤتمر عقد في مدينة براغ، ارتدى فيه عرفات كوفية بيضاء. وبعد ذلك بدأت تلك الكوفية تُرتدى في الكويت، وأصبحت تختص باللونين الأبيض والأسود.
بدأ عرفات في الكويت بتشكيل مجموعات من أصدقائه الذين لجأوا إلى الكويت قادمين من غزة. وتطورت تلك المجموعات حتى كوَّنت حركة عرفت باسم « حركة فتح ». وأول المؤسسين للحركة هم خليل الوزير، وصلاح خلف، وخالد الحسن، وفاروق القدومي. ولم يُعرف بالتحديد وقت تأسيس حركة فتح، إلا أن تأسيسها كان في الفترة ما بين عامي 1958-1960، استنادًا إلى بعض المعلومات الصحفية. واسم حركة فتح هو اختصار معكوس لحركة التحرير الفلسطيني. وأصبح اسم فتح هو الاسم المتداول.
وباقي تاريخ أبو عمار معروف حتى وفاته في مستشفى في باريس ١١ نوفمبر عام ٢٠٠٤، وترك ابنته زهوة وزوجته سهى.
….
وبعد توقيع اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٤ في واشنطن، عاد ياسر عرفات الى فلسطين، واشترط عليه الإسرائيليون ان يعود الى غزة، وكان يرغب في العودة الى القدس، ولكنهم رفضوا. وفي شهر يوليو من عام ١٩٩٤ عاد ياسر عرفات الى غزة عن طريق مصر واستُقبل استقبال الأبطال عند وصوله الى غزة
وكانت المفاجأة بالنسبة لي أن ياسر عرفات أقام مؤقتا في نفس الفندق الذي كنّا نقيم فيه وهو « فندق فلسطين ». وكنت أتوقع ان تكون الحراسة حوله مزعجة لنا نحن المقيمين بالفندق، ولكنها كانت أفضل كثيرا مما توقعنا. والسبب في تقديري هو شعبيته الجارفة بين الشعب الفلسطيني بكل طوائفه، وقد شاهدت هذا بعيني. حيث كانت تحضر وفود كثيرة من كل الاتجاهات السياسية الفلسطينية للسلام على ياسر عرفات وكان يجتمع بهم في مطعم فندق فلسطين، وكان مثل معظم السياسيين في العالم يخاطب كل وفد حسب ميوله السياسة والدينية! فإذا جاءه وفد من حماس او الاخوان المسلمين، يخطب فيهم: “قال الله، وقال الرسول”! وان جاءه وفد من جبهة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اليسارية، يتكلم معهم عن الاشتراكية ونضال الطبقة العاملة! وإذا جاءه وفد من القوميين العرب، يخاطبهم عن أهمية الوحدة العربية من الخليج الى المحيط…
…
واذكر انه من مرة المرات القليلة التي قامت فيها مظاهرات ضد ياسر عرفات جاءت مجموعة صغيرة من الشباب على سيارة نصف نقل ووقفوا امام فندق فلسطين يهتفون ضد ياسر عرفات. ولم تمكث تلك المظاهرة اكثر من نصف ساعة. وبعد انتهائها وجدت مذيع الـ « سي ان ان » المشهور “بيتر ارنت” وكان متواجدا وقتها في غزة يحضر امام فندق غزة بعد أن فاتته تلك المظاهرة بقليل. وكان غاضبا لان المظاهرة قد فاتته. وحدث بعد ذلك ان احد أولاد الحلال اقترح عليه إعادة تمثيل وتصوير المظاهرة مرة أخرى. وقد حدث ذلك بالفعل امام عيني، فاستدعي بيتر بعض الأولاد وأعطاهم مبلغا بسيطا من المال وجاءوا بسيارة نصف نقل ركبوا عليها وأعادوا تمثيل المظاهرة بالهتافات ضد ياسر عرفات. وقام مصور بيتر ارنت بالتصوير وقام بيتر بالتعليق، (و« يا دار ما دخلك شر »)! ومن يومها عرفت كيف يتم تلفيق الأخبار التي نشاهدها حتى على أشهر القنوات الفضائية!
…
وقبل بدء مشروع الإسكان الذي فازت شركتنا به جاء مديري مستر (بيتر هيجادوس) من فرع الشركة في مصر لكي يحضر حفل وضع حجر الأساس للمشروع، ونزل معي في فندق فلسطين لمدة ليلة واحدة. وترأس وضع حجر الأساس ياسر عرفات، وجاء أيضا السفير الأمريكي في تل أبيب ورئيس هيئة المعونة الامريكية في واشنطن وكبار مسؤولي السلطة الفلسطينية. وللأسف، لم يُسمح لي بدخول موقع المشروع للاشتراك في الاحتفال بوضع حجر الأساس، وقالوا لنا ان كل شركة سوف يمثلها مندوب واحد فقط. وبالطبع قام بيتر بتمثيل شركتنا في وضع حجر الأساس، ووصف لي بيتر ان الجو العام في الاحتفال كان على أعلى درجة من التفاؤل. وقد عدت الى القاهرة مع بيتر عن طريق رفح المصرية، ودخل هو مصر بسهولة شديدة بدون المرور على ضابط امن الدولة لانه أمريكي! اما انا، فقد مكثت اكثر من ساعة لكي أقابل ضابط امن الدولة لاني مصري! وبناء عليه قرر بيتر عدم انتظاري وقال لي: « لما تخلص ارجع القاهرة بتاكسي على حساب الشركة ». ورجع هو بسيارة الشركة! وقلت لنفسي وقتها « لو لم اكن مصريا لوددت ان أكون أمريكيا » !
…
وبما اننا نتكلم عن ياسر عرفات، يحب ان اذكر باني قد قابلت ياسر عرفات في مكتبه في غزة مع وفد كبير من شركتنا متعدد الجنسيات. وجاء مهندسون من أمريكا وسويسرا وإيطاليا والسويد والنرويج وبريطانيا، وكنت انا المصري الوحيد في الوفد. وقابلنا ياسر عرفات في مكتبه المتواضع في غزة بابتسامته الشهيرة وجلس على رأس طاولة الاجتماعات وكانت خلفه صورة كبيرة للقبة الذهبية لمسجد الصخرة المشرفة. ورحب بِنَا ترحيبا كبيرا ، ولما عرف اننا مهندسون قال لنا ضاحكا: « أنا أيضا مهندس، وكنت استمتع بالعمل كمهندس، ويا ليتني أكملت حياتي مهندسا » !