كما كان من المرتقب أن يكون لبنان ضمن جدول أولويات إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، وفي حين توقعت الكثير من الأوساط أن يكون ملف البرنامج النووي الإيراني على رأس جدول الأولويات، ما كان بحسبان أفراد الفريق الدبلوماسي والاستطلاعي الإيراني المكلف بالتحرك في واشنطن من مطلع يناير الماضي لجس نبض المقربين من فريق بايدن تجاه بلادهم أن تأتيهم رسالة واضحة بأن يرفعوا أيديهم عن اليمن بـ« الانكفاء عنها”. وهذه نقطة في أول سطر لأي مفاوضات قادمة معهم.
فوجئت الدبلوماسية الإيرانية, وتعجب الملالي اللذين طالما اتسمت مقاربتهم لليمنيين وللحوثيين بالاستعلاء والتبخيس بأن يصير هؤلاء رقم(1) في أجندة بايدن وبلينكن.
لقد كان من الوارد أن يكون لبنان على رأس أولويات الإدارة الجديدة. فهو بلد منكوب بتغلغل وتغول “الذراع الإستراتيجي” لجمهورية الملالي التي استثمرت كثيرا في إنشاء مليشيات “حزب الله” وإدارته وتمويله وتعزيزه بكبار الخبراء والكثير من ضباط “الحرس الثوري” الإيراني، وصولا إلى تمكينه من اختطاف الدولة اللبنانية والتلبس بحالتها، واستنزاف موارد البلد وتفجيره وتدميره وتفقيره واغتيال قياداته السياسية والفكرية والحقوقية و الأمنية، وتحويله إلى ساحة ملتهبة، متفجرة، خطرة على نفسها وعلى غيرها في الإقليم والعالم. كذلك، الى محطة لتأهيل المليشيات التابعة والفرعية والمضمرة، ومنصة لإطلاق عصابات وفرق الاغتيالات وغسيل الأموال وتجارة المخدرات في أرجاء مختلفة من العالم. وذلك بعد أن تفاعلت الخلطة الكيميائية بين الإرهاب والمافيا في جسم “حزب الله” لتفرز عصابات إجرامية عابرة للحدود والقارات، وهي أخطر بكثير من لغز البرنامج النووي الإيراني ومن المليشيات التابعة والفرعية ذات الأثر المحلي والإقليمي على الأكثر.
بدلا من أن تذهب إدارة بايدن إلى طهران عبر منصة مفتاحية لحلحلة وفكفكة أوضاع المنطقة حيث معقل المليشيا المركزية والأكاديمية التي تخرجت منها مليشيات ” أنصار الله” الحوثية، فضلت الذهاب إلى طهران من البوابة الخلفية: اليمن، بضرب من التماهي العجيب مع إدارة الملالي لشؤون جمهوريتهم باعتماد سياسات ما تحت الطاولة، وبالاستناد إلى فرق الكواليس وقيادات الظل، ودبلوماسية الغرف المغلقة والقنوات الخلفية.
وبالمناسبة يحكى أن شخصية دبلوماسية أمريكية، لبنانية الأصل، مُقربة من الإدارة الجديدة، وعلى صلة ببعض عناصر اللوبي الإيراني في واشنطن تحدثت عن القناة الخلفية الإيرانية التي تعوّل عليها طهران في متابعة مستجدات الموقف الأمريكي الذي تمثل برسالة تضمنت تأكيد الجانب الأمريكي على أن هناك أمورا يجب التفاوض عليها في المنطقة أولها “انكفاء إيران عن اليمن” من أجل إنهاء حالة اللا استقرار في المنطقة.
في 4 فبراير تضمن خطاب الرئيس الأمريكي أمام موظفي وزارة الخارجية في واشنطن سلسلة من القرارات من بينها « إنهاء الدعم العسكري الأمريكي للعمليات العسكرية في اليمن » التي « أحدثت أكبر كارثة إنسانية وإستراتيجية »!
وشدد على أن “هذه الحرب يجب أن تنتهي ” معلنا عن تعيين الدبلوماسي الأمريكي المخضرم تيموثي ليند كينغ مبعوثا لبلاده في اليمن، وهي خطوة غير مسبوقة وذات رمزية عالية تلتها العديد من الخطوات المتسارعة.
جاء تعيين كينغ مبعوثا خاصا إلى اليمن بعد أسبوع من قيام بايدن بتسمية روبرت مالي، الذي عمل سابقا على الاتفاق النووي الإيراني، مبعوثاً خاصاً بالشأن الإيراني.
في6 فبراير، تواصل وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان وأخبره أن إنهاء الحرب في اليمن يمثل أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية.
وبعد يومين قال بلينكن لـ « سي.إن. إن » أن « الولايات المتحدة سوف تعمل مع حلفائها على التوصل إلى اتفاق أطول وأقوى من الاتفاق النووي ألمبرم عام 2015 يشمل برنامج إيران للصواريخ البالستية وسلوك طهران المزعزع للاستقرار في المنطقة ».
وفيما أكد أن “أمريكا ملتزمة بالدفاع عن السعودية فقد شدد على ” أن الولايات المتحدة سوف تقود دورا رائدا في محاولة إنهاء الحرب في اليمن”!
بالتزامن مع هذه التصريحات والتحركات، أبلغت الخارجية الأمريكية الكونغرس رسميا عزم وزير الخارجية شطب جماعة “أنصار الله” من لائحة الإرهاب وأكدت أن إدارة الرئيس الجديد بدأت فعلا بإجراءات إلغاء قرار الرئيس السابق ترامب. ومن المقرر أن يُعلن إلغاء القرار رسميا الثلاثاء المقبل.
لقد حرصت الإدارة الأمريكية « الجديدة » على التأكيد مرارا وتكرارا بأن ” الدوافع الإنسانية، وليس النفط ومآرب أخرى، هي التي تحركها بالدرجة الأولى. وأنها تستجيب بذلك لجهود وضغوط الأمم المتحدة وممثل الأمين العام مارت غريفيت الذي احتفى بالبيانات والتصريحات والتحركات الأمريكية ورقص على إيقاعها من أول وهلة.
وفي اليوم التالي لخطاب بايدن 5 فبراير، قام غريفيت بأول زيارة لطهران واستقبلته الصحافة ووكالات الأنباء الإيرانية بحفاوة بالغة عبرت عن قناعتها بأن بلادها حصدت ثمرة جهود وكيلها في اليمن بأسرع مما تتوقع وبمردود كبير رغم أن ما قدمته للمليشيات الحوثية تافه وضئيل إذا ما قورن بضخامة استثمارها في ” الذراع الإستراتيجي ” بلبنان.
في وقت وصول غريفيت إلى طهران كان المبعوث الأمريكي ليند كينغ قد وصل إلى الرياض.
في البدء كان العمل منسقا وفي وقت لاحق أصبح مشتركا وموحدا بين المبعوث الأممي والمبعوث الأمريكي.
وقد عقد نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان المكلف بالملف اليمني اجتماعا مشتركا مع كينغ وغريفيت لمناقشة موضوع إنهاء الحرب في اليمن في 6 فبراير.
كان أسبوعا حافلا بالتحركات المتسارعة وقد تعاطت المليشيات الحوثية معها على الطريقة الإيرانية حيث صعدت من عملياتها على السعودية إلى الذروة وشنت خلال ألأسبوع الماضي أكثر من سبع هجمات بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة المفخخة, وفي الداخل كثفت من عملياتها العسكرية على محافظة مأرب الغنية بالنفط والتي يتكدس فيها أكثر من مليون ونصف مليون نازح يمني, كما صعدت عملياتها وشددت حصارها على مدينة تعز ذات الكثافة السكانية ألأكبر في اليمن, وقد تقصدت هذا الرد على الخطوات الأمريكية والأممية لقناعتها بأن هذا هو السبيل الوحيد لتحسين شروطها التفاوضية وتحصيل المزيد من المزايا والهدايا, وهذه هي الطريقة التي كانت ولازالت تعتمدها جمهورية الولي الفقيه في التعامل مع الأمريكيين والدول الغربية والهيئات الأممية.
هي مدرسة واحدة ولكن هذا الإندفاع المحموم وغير المحسوب حشر إدارة بايدن ومعها غريفيت في زاوية حرجة. فبعد أسبوع من التحركات المحمومة لـ « إنهاء الحرب في اليمن » على طريقة الوجبات السريعة، وأسبوع من التصعيد العسكري الاستعراضي غير المسبوق، اضطرت الخارجية الأمريكية إلى التراجع قليلا, ولوحت بأنها لن ترفع العقوبات على القيادات الحوثية ولن تقف مكتوفة الأيدي تجاه الاعتداءات التي تقوم بها المليشيات الحوثية على السعودية.
وفي 8 فبراير ورد في بيان لبلينكن أن « الولايات المتحدة منزعجة جدا من مواصلة الحوثيين لهجماتهم وتدعوهم لوقف هجماتهم فورا ضد المنشآت المدنية السعودية” »
وفي مقابل كل هذه المناشدات والمداعبات صعدت المليشيات من عملياتها العدوانية وحشدت الآلاف باتجاه إسقاط مأرب لتحسين شروط تفاوضها بما في ذلك التفاوض على إقامة دولة شيعية في شمال اليمن عاصمتها صنعاء ـ حسب اقتراح لاريجاني ـ بشرط أن تقوم إلى جانبها دولة صديقة في الجنوب!
وفي اليوم الذي انعقد فيه الاجتماع المشترك بين خالد بن سلمان وغريفيت وكينغ شنت المليشيات اكبر وأخطر هجماتها.
لدى كينغ وغيره من الدبلوماسيين المخضرمين الأمريكيين بعض القناعة بأن هذه المليشيات التي تهتف بشعار ” الموت لأمريكا” وتحمي السفارة الأمريكية بصنعاء في الوقت ذاته يمكن أن تأتي إلى الطاولة ولو عبر” قناة خلفية”.
يعتبر المبعوث الأمريكي كينغ خبيرا بشؤون منطقة الخليج وقد عمل سابقا كنائب لرئيس البعثة الدبلوماسية الأمريكية , وهو نفس المنصب الذي كان يشغله في صنعاء الدبلوماسي الأمريكي, اللبناني الأصل , نبيل خوري الذي صار مؤخرا من كبار” المحللين” للشأن اليمني والمسوقين التبشيريين بالتوجهات الأمريكية الجديدة وللتصريحات الصادرة من صنعاء ووزارة خارجية الحوثيين الغير معترف بها دوليا.
المؤسف والواضح أن الإدارة الأمريكية الحالية تتوهم بأنها تستطيع وقف الحرب، وقد انتدبت نفسها لهذه المهمة المستحيلة متجاهلة صعوبات وتعقيدات الوضع اليمني والحرب بل الحروب المتداخلة في اليمن, وفسيفساء المليشيات المرتبطة بأطراف إقليمية متضاربة المصالح، ومتجاهلة لحقيقة أن الكارثة قد حلت باليمنيين من قبل أن تتدخل السعودية بخطوة إستباقية للدفاع عن نفسها.
ومعلوم أن الكارثة اليمنية ترجع، في ألأصل، إلى انهيار الدولة ومؤسساتها ومناخات الفوضى والاضطراب والاحتراب وإجهاز المليشيات على ما تبقى من مؤسسات الدولة في سبتمبر 2014.
إن تجاهل كل هذه الحقائق والوقائع يحكم على المبادرة الأمريكية بالفشل الذريع.
لقد تفاقمت الكارثة الإنسانية في اليمن بسبب ارتباك وتخاذل وتواطؤ الموقف الدولي مع المليشيات الحوثية الإجرامية التي أرتكبت أكبر عملية اختطاف في التاريخ بحصارها واحتجازها لأكثر من 70 في المئة من السكان الواقعين في مناطق سيطرتها , وعبثها بالمساعدات الإنسانية ونهبها وبيعها في السوق السوداء وإجبار المنظمات الأممية على دفع إتاوات باهضة لتمرير النزر اليسير من تلك المساعدات- حسب تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة-.
في العموم تشارك إدارة بايدن والسيد غريفيت حاليا في تنشيط أكبر سوق سوداء سياسية في المنطقة بتعاميها عن أسباب الكارثة التي حلت باليمنيين حين تقدم للحوثيين الهدايا والوجبات المجانية من غير مقابل.
على العكس من ذلك، تذهب المليشيات بعيدا في شططها ونزقها وجموحها على طريقة ملالي طهران وقد سارعت بالرد على الرسائل الأمريكية عبر الصواريخ وباشتراط رفع العقوبات والحصار على مطار صنعاء قبل أي تفاوض كما تفعل إيران تماما حين تشترط رفع العقوبات والعودة إلى مبتدأ أوباما.
إن ما يحدث يدعو إلى التأسي على الرئيس الأمريكي السابق رونالد ترامب فقد كان يعرف كيف يتعامل مع طهران ومليشياتها في المنطقة من جنس عملها ودونما مراوغه وهدر وقت في ” القنوات الخلفية ” مع عصابات إجرامية.
إن إدارة بايدن ترتكب خطأ فادحا حين تكرر خطيئة أوباما الذي كان متماهيا مع النظام الإيراني، وحين تشجع المليشيات بإضفاء الشرعية على جرائمها ناهيك عن أنها تسوق آمال وأوهام كاذبة بالحديث عن حلول سحرية لإنهاء الحرب!