نعم.. لقد ساهم “تويتر” في إسكات الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب. كيف ساهم في ذلك؟ من خلال لعب دورٍ خاص ضمن سيناريو لجعل الظروف مواتية “سياسيا وقانونيا” لعزل ترامب، وصولا إلى إجراء حفل تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن في ٢٠ يناير.
فالاتهامات الموجهة لترامب بأنه حرّض على العنف في أحداث الكونغرس، هي اتهامات واهية ولا أساس لها وتنطلق من مجرد تأويلات لتصريحاته. ودعوة ترامب أنصارَه لتنظيم احتجاجات سلمية أمام الكونغرس احتجاجا على نتائج الانتخابات واعتراضا على ادعاءات تزويرها، هي دعوة محقة وتُعتَبر في صلب العمل الديمقراطي. وعلى المؤسسات المدافعة عن الحقوق والحريات، وكذلك الحكومات، أن توضح هذا الأمر بشكل جلي دون ربطه بالتأويلات المغرضة.
على سبيل المثال، انتقدت الحكومة الألمانية إغلاق حساب ترامب، وقالت إن الشركات المشغلة لمواقع التواصل الاجتماعي تضطلع بالمسؤولية حيال عدم تسمم محتويات التواصل السياسي بعبارات الكراهية والتحريض على العنف، مضيفة بأنه لا يمكن تقييد حرية الرأي كحق أساسي له أهمية بالغة إلا من خلال المُشَرِّع وليس حسب معيار الشركات.
واعتبرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إغلاق حساب الرئيس الأميركي “مسألة إشكالية”. فيما قالت بياتريكس فون شتورش نائبة زعيم “حزب البديل من أجل ألمانيا” إن “شركات الإنترنت العملاقة مثل غوغل وفيسبوك وتويتر وأمازون تسيء استغلال مواقعها المهيمنة على السوق من أجل إلغاء حرية الرأي”.
كذلك، وللمفارقة، فإن مرشح اليسار المتشدد للرئاسة في فرنسا، جان لوك ميلونشون، اعترض على قرار تويتر بفرض حظر على ترامب!
ورأي السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام أن قرار “تويتر” يشكل “خطأ جسيما”، وقارن بين سماح الموقع للمرشد الإيراني علي خامنئي بنشر تغريدات ومنع ترامب، مشيرا إلى أن “ذلك يشي بالكثير عن أولئك الذين يديرون تويتر”. كما انتقد الكثير من الجمهوريين قرار” تويتر”، وقالوا إن المنصة تسمح لكثير من الإرهابيين بالتغريد من خلال أسمائهم الحقيقية.
إن الاختلاف مع سياسات ترامب ومع مواقفه، لا يمكن أن يكون مبررا لمنعه من إبداء رأيه. كما أنه من الضرورة بمكان فضح التأويلات التي ربطت رأى ترامب بالعنف والكراهية، إذ كان خضوع أصحابها ومنصاتها لضغوط المصالح السياسية واضحا.
وفيما هناك الكثير ممن يتشدقون بحرية الرأي وممن يرفعون الشعارات الليبرالية، فإننا نجدهم اليوم مرتاحين من قرار منع ترامب من إبداء رأيه، مبررين مواقفهم هذه بتلك التأويلات. نعم، من حق الجميع معارضة سياسات ترامب والتحذير منها، ومن حقهم أن يعملوا على إسقاطه سياسيا. لكن من المعيب أن يؤيد هؤلاء منعه من إبداء رأيه، ولا يجب أن يكون الاختلاف معه على حساب حرية الرأي والتعبير، بل من الخطورة بمكان أن يكون التعبير رهينة بيد أصحاب الشركات المالية في علاقتها بالمصالح السياسية.
لقد كان موقف “تويتر”، وغيره من منصات التواصل الاجتماعي، سقطة لرافعي الشعارات الليبرالية، سواء مالكي ومديري المنصات، أو الذين اشادوا بخطوات المنصات. فهذه المواقف لا يمكن في واقع الأمر أن تعكس مفهوم احترام الحريات، ومن غير المقبول أن تنقلب على المفهوم أو أن تقبل بتسييس أنشطته في عالم نحتاج فيه اليوم إلى تفكيك المصالح السياسية عن مختلف الأنشطة الأخرى وعلى رأسها تلك المتعلقة بحرية الرأي والتعبير.
فعالم اليوم، لا يُوصف فقط بعالم الثورة المعلوماتية والتكنولوجيا الرقمية والقرية الدنيوية المصغرة، بل هو لم يصل إلى ذلك إلا لكونه عالم الحقوق والحريات، والذي يجب ألّا يُمس أو يُنتهك. فهو العالم الجديد الذي بات فيه الإنسان، من أقصى بقعة في يمين الكرة الأرضية إلى أقصى منطقة في يسارها، يجد ضالته الإنسانية فيها من خلال دفاعه عن كرامته، وعلى القائمين على المنصات ألّا يخذلوا هذا الإنسان.
يجب أن يعي أصحاب المنصات، أن الحرية، والتكنولوجيا، والمال، والإبداع البشري، أتاحت لهم إنشاء هذه المنصات، وبالتالي هناك قدرة على إنشاء غيرها مما قد يفتح مجالا بديلا وأوسع للرأي والتعبير. فلا يمكن السيطرة اليوم على الكلمة من خلال الهيمنة على منصات بعينها، إذ أن المجال واسع لإنشاء أخرى بديلة غير مسيسة وقادرة على أن تحتضن الرأي الآخر.
لقد بعث موقف “تويتر” والمنصات، وكذلك موقف المناصرين الأميركيين لها، برسالة سلبية جدا إلى المجتمعات التي تعاني من القمع بمختلف أنواعه لا سيما مجتمعات دول المنطقة، حول واقع الحريات في الولايات المتحدة وحول الدور الأميركي القيادي في دعم الكلمة والتعبير حول العالم.
لقد وصلت من هذه المواقف الرسالة التالية وهي أن الأميركان أيضا باتوا لا يحتملون الرأي الآخر، وهذا يدفع بمزيد من التأثير السلبي على مجتمعاتنا وسيعزز موقف حكومات المنطقة في القيام بمزيد من التضييق على حرية التعبير.
ففي الوقت الذي يتأمل البعض من مجلس الأمة في الكويت تغيير القوانين المقيّدة لحرية التعبير وإسقاط قانون سجن صاحب التعبير، بات هؤلاء في موقف متشائم بعد انتشار الرسالة الأميركية. لذا أصبح من الضروري إدانة موقف “تويتر” ومنصات التواصل، والتي أظهرت وصايتها على التعبير وحاولت أدلجة الرأي، ما يتطلب العمل على تغيير ذلك وعدم تكراره في المستقبل.
لقد فشلت حتى الآن محاولات عزل ترامب قانونيا التي تبنّاها الديمقراطيون، خاصة تلك التي تقودها « نانسي بيلوسي ». ولم تكن مؤامرة إسكات الرئيس الأميركي من خلال “تويتر” إلا مرحلة من مراحل هذه المحاولات. وعليه، انكشفت بشكل واضح خطة جعل الظروف مواتية “سياسيا وقانونيا” لتنصيب بايدن.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا يسعى الديمقراطيون لعزل ترامب؟
إن الإجابة تكمن في التالي: أن “الترامبية”، إن صح التعبير، والتي حصلت على تأييد ٧٤ مليون ناخب، تمثّل تحد مباشر لأفكار الحزب الديمقراطي.
أو بعبارة أخرى هي مسعى لمواجهة ما يمكن تسميته بخطر الأفكار “الدخيلة” التي جاءت لتتحدى القيم الأميركية.