يستهلّ امين معلوف كتابه، “الحروب الصليبية كما رآها العرب”، كالتالي: “خلال الحملة الصليبية وعندما احتل الفرنج انطاكية وتابعوا طريقهم إلى القدس فاحتلوها وعاثوا فسادا وقتلا وتدميرا في الأرض، ذهب أبي سعد الهروي قاضي دمشق إلى بغداد ليستثير الهمم وينبّه المسلمين ويشعرهم بالعار. فقاد رفاقه إلى المسجد يوم الجمعة في 1 آب 1099 لصلاة الظهر، وعندما أقبل المسلمون من كل صوب للصلاة أخذ يأكل علانية مع أن الناس في شهر رمضان.
وما هي إلا ثوان حتى اجتمع حوله الناس واقترب الجند لاعتقاله. بيد أن أبا سعد نهض يسأل بهدوء من يحيطون به كيف يمكن أن يُظهروا هذا الاضطراب حيال إفطار في شهر الصيام في حين يبدون لامبلاة تامة حيال ذبح آلاف المسلمين وتدمير المقدسات الإسلامية. وإذ أكره المسلمون على الصمت اخذ يصف بالتفصيل ما دهم بلاد الشام ولاسيما القدس من مصائب. حتى بكوا وأبكوا” . وطبعا عجزوا عن فعل شيء، كما هم الآن.
في مراحل التراجع كالتي نمر بها، تتمسك الشعوب بقشور الدين وتترك جوهره، وإلا ما كانت الأوضاع لتصل إلى ما هي عليه.
قراءة أمين معلوف على ضوء الحاضر، تشعرنا وكأن التاريخ يحب التكرار. كما يفعل الأستاذ مع تلاميذه الكسالى، أو أن الحضارات تمر بصعود وهبوط على ما وصفها توينبي.
فكيف وصل الوضع الى ما وصفه القاضي الهروي؟
“عندما اقترب الغربيون من القسطنطينية، لم يثيروا اهتمام السلطات. فهم بضعة مئات من الفرسان وعدد أكبر من المشاة المسلحين، لكن فيهم أيضا آلاف من النساء والأطفال والشيوخ بالأسمال، حتى لكأنهم جماعة من البشر طردهم من ديارهم غاز مجتاح. وقد نقل أن هؤلاء يغادرون معسكرهم كل صباح في حشود من بضعة آلاف فيعيثون في الجوار فسادا ناهبين بعض المزارع مضرمين النار في أخرى قبل أن يعودوا إلى حيث تتنازع عشائرهم ثمرات السلب… والحق أنه لم يكن في هذا ما يثير حفائظ جنود السلطان ولا ما يمكن أن يقض مضجع سيدهم”. فممارسة جنود السلطان ليست افضل احياناً.
وقد ظلت الحال على هذا المنوال إلى أن جاء يوم فلم يبق في الجوار ما يلتقطونه، فاتجهوا صوب نيقية واجتازوا بعض القرى، وكلها مسيحية، ووضعوا اليد على الغلال التي كانت قد خزنت في الأهراء بعد الحصاد ذابحين بلا شفقة كل من حاول مقاومتهم من الفلاحين.
يجب التنبيه هنا، ان نصارى الشرق خضعوا، منذ مجيء الفرنج إلى اضطهاد مزدوج: اضطهاد اخوتهم في الدين من الغربيين الذين يتهمونهم بالتعطاف مع العرب ويعاملونهم على أنهم رعايا من رتبة أدنى، واضطهاد مواطنيهم المسلمين الذين كثيرا ما يرون فيهم حلفاء طبيعيين للغزاة، على غرار ما تعرض له من يعرّفونهم “بعرب 48” وما تمارسه حماس تجاه المسيحيين منهم.
وحتى عندما وصل الإفرنج إلى أنطاكية، آخر مدينة تابعة لملك القسطنطينية – الذي خاض معارك خاسرة وانسحب إلى المناطق الجبلية – لم يشعر في البداية بأنه معني مباشرة بالغزو الفرنجي. ظن أن مرتزقة إمبراطور الروم راغبين في استعادة أنطاكية وأن ليس هناك ما يخرج عن المألوف لأن هذه المدينة طالما كانت بيزنطية.
التأخر باستشعار الخطر صفة ميّزت مسؤولي المنطقة في ذلك الوقت كما الآن. وإذا حصل رد فلا يكون فاعلاً لأسباب متنوعة، ليس أقلها النزاعات بين الأخوة. فبعد أن حوصرت أنطاكية استنجد ملكها بملكَيْ بلاد الشام، حيث الحياة السياسية فيها تسممها “حرب الأخوين”، نصف المجنونين ويكرهان بعضهما، واحد في حلب: رضوان، والثاني في دمشق: دُقاق. وكان كل منهما يخاف من مطامع الآخر ومن تنصيب نفسه ملكا إذا ما انتصر.
لذا حتى عندما يؤلف الأمراء جيشاً، لم يكن الجيش قوة متجانسة، لأنهم ذوو مصالح متناقضة في أغلب الأحيان. يجد واحدهم أن الخطر الفرنجي أهون الشرين. فيكون الجيش الرائع الذي يكوّنونه ليس سوى عملاق بقدمين من طين.
بعد انطاكية وصل الفرنج « المعرةَ »، التي كانت آمنة وليس لديها جيش، ففظّعوا فيها بحيث وصف فظاعتها المؤرخ الفرنجي “ألبير دكس” الذي شارك في المعركة: « لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الأتراك والعرب، بل كانت تأكل الكلاب أيضا ».
لسوف تسهم حادثة « المعرةَ » في حفر هوة بين العرب والفرنج لن تكفي عدة قرون لردمها. ومع ذلك فإن الأهالي الذين شلهم الرعب لن يقاوموا حينها. لكن أمراءهم لا يكتفون بالصمت، فعندما سيعاود المجتاحون مسيرتهم تاركين وراءهم الأطلال يتصاعد منها الدخان، سوف يتراكضون ليرسلوا إليهم موفدين محملين بالهدايا مؤكدين لهم حسن نياتهم، عارضين عليهم كل مساعدة يحتاجون اليها.
التفكك السياسي
وعلى غرار حالنا الآن، بلغ التفكك السياسي حداً أصبحت معه أصغر البلدات تتصرف وكأنها إمارة مستقلة. فكل واحد يعرف أنه لا يمكن أن يعوّل إلا على قواته الخاصة لحماية نفسه ومفاوضة الغزاة. وعليه فقد ترك الناس عواطفهم الوطنية جانبا وجاءوا يقدمون الهدايا وآيات الإجلال للمحتل وعلى شفاههم بسمات مغتصبة؛ بحسب المثل المحلي: اليد التي لا تستطيع قطعها قبلها وادع عليها بالكسر”.
الانقسام الداخلي
يكتب ابن الاثير، مستغرباً، عن أصل الغزو الفرنجي، “أن حكام مصر الفاطميين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعوهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه ويكون بينهم وبين المسلمين، والله اعلم”. هذا لا يعني أن المصريين لم يحاربوا الفرنج لاحقاً. لكنه يدل على الانقسام الداخلي الذي كان سائدا في العالم الإسلامي بين أهل السنة الموالين للخليفة العباسي في بغداد، وبين أهل الشيعة المنتمين إلى الخلافة الفاطمية في القاهرة. والذي هو أحد أهم مصادر العنف الآن بعد أن أحسنت إيران استغلاله.
ويبدو أنه، حتى في نظر رجال دولة كصلاح الدين الذي سيحرر القدس، لا يقل قتال الشيعة أهمية عن محاربة الفرنج. فلا ينفك ينسب إلى “الهرطقة” جميع الشرور التي تنزل بالإسلام. فلا غرابة أن يُعزى الغزو الفرنجي إلى دسائسهم.
خيانة بعضهم بعض
كمثال على الخيانة ما حصل مع ملك طرابلس، التي كانت درة المشرق العربي، فهو لكي يتجنب مصير القرى التي تعرضت للتنكيل، ما إن علم باقتراب بغدوين من طرابلس في طريقه إلى بيروت ثم إلى القدس حتى أرسل إليه خمرا وعسلا وخبزا ولحما وهدايا نفيسة من ذهب وفضة، وحتى رسولا ليُعلمه بالكمين الذي نصبه له دُقاق مقدما إليه عددا من التفاصيل عن وضع عساكر دمشق الذين نصبوا له فخاً في نهر الكلب؛ مسديا إليه نصائح وأفضل الخطط الواجب اتباعها.
لقد اختار قاضي طرابلس طوعاً أن يخلّص بغدوين مرتئيا أن مصدر التهديد الرئيسي المحيق بمدينته هو دُقاق الذي كان قد تصرف على هذه الشاكلة معه قبل عامين. فالوجود الفرنجي بدا لأحدهما كما للآخر أهون الشرين عند احتدام الأمور. ولكن الشر لن يلبث أن يعمّ وينتشر. فبعد ثلاثة أسابيع من كمين نهر الكلب الذي لم تتحقق نتائجه كان بغدوين يعلن نفسه ملكا على القدس.
من هنا سوف تبدو الدويلات الفرنجية التي أقيمت للتو، بتصميمها وصفاتها القتالية وتعاضدها النسبي، كأنها قوة محلية حقيقية. بإزاء تمزق العالم العربي غير القابل للعلاج.
وبالرغم من أن المسلمين يملكون امتياز كثرتهم تجاه ضعف أعدائهم البالغ من الناحية العددية. فغداة سقوط القدس عاد معظم الفرنج إلى بلادهم قبل أن يرسلوا إمدادات جديدة. لكن العرب مرة أخرى يفوتون الفرصة ولا يهاجمونهم.
تغلب الفرنج على قلة أعدادهم ببناء القلاع الحصينة التي في وسع حفنة من المدافعين عنها أن تحبط مساعي جهور المحاصِرين. لكن السلاح الأشد فتكاً في يد الفرنج للتغلب على عائق العدد عدا قلاعهم: خَدَر العالم العربي.
كثيرة هي الأمثلة ودروسها. لكن الحال لا يظل على ما هو عليه، فمع الوقت بدأت بالبروز نقاط مجابهة ومقاومة كمثل التظاهرات في بغداد وبروز القاضي الخشاب في حلب الذي سيلعب دوراً مهما في استنهاض الهمم.. وستتضاعف هذه المواجهات وتظهر بوادر الجهاد. فسوء الحال لا يدوم، وفي لحظة معينة يستفيق أهل المنطقة ويستعيدون رشدهم. وهكذا تبدأ الحرب المقدسة التي قادها بلا هوادة الحُجّاج. ومن ثم صلاح الدين.
فهل صارت قريبة يقظة العملاق العربي الغافي؟
monafayad@hotmail.com