الصورة: ضابط في الجيش اللبناني يسير أمام حطام وعربات مدمرة في مرفأ بيروت يوم 23 أكتوبر تشرين الأول 2020. تصوير: محمد عزاقير
من سامية نخول وإلن فرنسيس ومايكل جورجي
بيروت (رويترز) – جاء التحذير الأول من تحذيرات كثيرة عن وجود شحنة خطرة في مرفأ بيروت في فبراير شباط 2014 وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر من وصولها. وأطلق هذا التحذير العقيد جوزف سكاف الذي وصفته أسرته بأنه مسؤول جمارك دؤوب في عمله.
فقد أخطر سكاف، الذي كان رئيسا لشعبة مكافحة المخدرات ومكافحة تبييض الأموال، سلطات الجمارك بأن شحنة نترات الأمونيوم “شديدة الخطورة وتشكل خطرا على السلامة العامة”.
وفي الرسالة المكتوبة بخط اليد التي اطلعت عليها رويترز وتحققت من صحتها من مصدر مطلع على القضية، طالب سكاف بضرورة “إبعاد هذه الباخرة عن الرصيف رقم 11 إلى كاسر الموج وإذا أمكن وضعها تحت الرقابة من قبل تلك الأجهزة المتواجدة في المرفأ”.
ولم تستطع رويترز التحقق مما إذا كان سكاف، الذي توفي في 2017، قد تلقى ردا على رسالته أو ما إذا كان قد تابع هذا الأمر. وأحال مكتب مدير الجمارك رويترز إلى وزارة المالية التي لم ترد على أسئلة حول هذا التحذير.
يتذكر إيلي شقيق سكاف أن العقيد قال عن الشحنة في 2014 “ما راح نخليهن يفرغوها”. وقال ميشال نجل سكاف إن تصميم والده على إبعاد السفينة روسوس عن المرفأ يتفق مع شخصيته إذ أنه لم يكن يسمح لمثل هذه الأمور بأن تمر وكان يتصدى لكل ما يراه من أخطاء.
كانت رسالة سكاف المؤرخة بتاريخ 21 فبراير شباط 2014 الحلقة الأولى في سلسلة من التحذيرات التي أطلقها مسؤولون في المرفأ والجمارك والأمن من شحنة نترات الأمونيوم الموجودة على متن السفينة روسوس. ولم يأخذ أحد بهذه التحذيرات.
وانتقل سكاف بعد بضعة أشهر إلى موقع جديد تولى فيه منصب رئيس شعبة الجمارك في المطار. وعقب ذلك تم نقل شحنة السفينة روسوس في أواخر 2014 إلى مخزن في المرفأ. وفي الرابع من أغسطس آب الماضي انفجرت الشحنة فدمرت أحياء بكاملها مما أسفر عن سقوط قرابة 200 قتيل.
وفي نظر سكان بيروت يمثل حطام المرفأ والتقاعس عن الأخذ بتحذيرات سكاف وغيره رمزا أكبر. فما زالوا بعد ثلاثة أشهر تقريبا من الانفجار ينتظرون نتائج تحقيق وعدت قياداتهم بأن يكشف الحقيقة في غضون أيام.
وقد تعثرت المساعي الرامية لتشكيل حكومة جديدة غير حزبية بسبب العوامل الطائفية التي تحكم الحياة السياسية في لبنان. وفي غمار هذه الفوضى، لم يبدأ حتى الآن تدفق المساعدات الدولية التي تتوقف على تشكيل حكومة جديدة تعمل على استئصال الفساد.
وتعتقد أسرة سكاف أن وفاته في 2017 كانت جريمة قتل ربما تكون لها صلة بعمله كضابط جمارك يحارب الجريمة وتهريب المخدرات أو لاشتغاله في أواخر حياته بالسياسة.
وتوصل تقرير طبي رسمي صادر في 2017 إلى أن سكاف توفي نتيجة سقوطه. وفي 2018، خلص تقرير ثان بناء على طلب أسرته إلى أنه تعرض لاعتداء.
* فساد يفوق الخيال
يعد المرفأ من أنشط الموانيء في شرق البحر المتوسط إذ تشير التقديرات إلى أن حجم حركة التجارة عبره في ذروة نشاطه كان يبلغ 15 مليار دولار سنويا. غير أن تسعة مصادر مطلعة تشارك في عمليات الشحن والتخليص والإدارة قالت إنه يعاني من تفشي الفساد والإهمال والطائفية.
ودعمت وثائق استيراد أطلع أحد المصادر رويترز عليها روايات هذه المصادر التسعة.
ويعكس حال المرفأ وضع البلد بصفة عامة إذ يتم توزيع الوظائف وفقا لعوامل طائفية بين الطوائف المسلمة والمسيحية. ويسود هذا الترتيب في لبنان منذ حوالي 30 عاما ويعزو كثيرون إليه السبب في انزلاق البلاد إلى حالة الانهيار المالي.
وكما قال أحد كبار الوزراء لرويترز “مستوى الفساد في كل طبقات الدولة يفوق الخيال. فكم هو حجم الفساد المماثل لفساد المرفأ الذي يختفي تحت عباءات الساسة؟
وقال إنه تلقى تهديدات تحذره “من التحقيق في الفساد”. لكنه لم يذكر تفاصيل.
في أعقاب الحرب الأهلية التي دارت من 1975 إلى 1990 تشكلت لجنة انتقالية تمثل الجماعات السياسية الرئيسية للطوائف لإدارة مرفأ بيروت بصفة مؤقتة. ولا تزال هذه اللجنة قائمة حتى الآن.
ويُعتبر حسن قريطم مدير عام المرفأ على نطاق واسع من الموالين لرئيس الوزراء المسلم السني سعد الحريري في حين أن تسمية بدري ضاهر مديرا عاما للجمارك حظيت بدعم حزب التيار الوطني الحر الذي أسسه الرئيس المسيحي ميشال عون.
وقد تم توقيف قريطم وضاهر فيما يتصل بالانفجار وذلك للاشتباه في وجود إهمال تسبب بالقتل. ويقول محامي قريطم إن موكله لا يتحمل أي مسؤولية عن الانفجار.
وقال المحامي لرويترز إن التعيينات السياسية أمر شائع في لبنان وليس في المرفأ وحده “وهذا لا يعني أن كل من يُعين فاسد”.
وقال أحد محامي ضاهر إنه لا يمكنه التعليق ما دام التحقيق مستمرا.
ونفى مكتب الحريري تعيين موالين لرئيس الوزراء في وظائف رئيسية. وقال مكتب عون الإعلامي إن التعيينات خلال فترة تولي الرئيس منصبه، بما فيها تعيين ضاهر، تتم على أساس “الكفاءة والخبرة”.
وقالت ثلاثة من المصادر إن لجماعة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران وجودا غير مباشر في المرفأ من خلال تجار من حلفائها. وكان زعيم حزب الله حسن نصر الله قد نفى وجود أي نفوذ من هذا النوع للجماعة.
وقالت المصادر التسعة لرويترز إن عملية صنع القرار تعطلت وغابت الرقابة وانتشر إفلات المخطيء من العقاب وذلك لأن المرفأ تحت رحمة جماعات متنافسة.
وقالت لمياء بساط من معهد باسل فليحان المالي وهو هيئة مستقلة تجري أبحاثا عن السياسات والحوكمة “هذه الفوضى تلائم الكل. ومن الصعب جدا التغلب عليها”.
وتبين دراسة أعدها أساتذة جامعيون بجامعتي أوكسفورد وكولومبيا في عام 2019 أن 17 شركة من بين شركات الخطوط الملاحية اللبنانية البالغ عددها 21 شركة تربطها صلات ببعض الساسة عن طريق أعضاء مجلس الإدارة أو المديرين أو حملة الأسهم.
ويقدر المحلل اللبناني سركيس نعوم أن مليارات الدولارات ضاعت على الدولة في صورة رسوم لم يتم تحصيلها “بسبب التهريب وتسجيل الفواتير بأقل من قيمتها الحقيقية والسرقة المستمرة” في المرفأ. وأضاف “حتى حراس المخازن أثروا من الرشوة”.
وقالت المصادر إن بعض المستوردين استغلوا إعفاءات من الرسوم ممنوحة لمؤسسات إنسانية ودينية كغطاء لاستيراد أجهزة إلكترونية ومواد بناء وملابس ومشروبات وأثاث ومواد غذائية.
وروى وكيل تخليص جمركي أنه دفع 100 دولار لمفتش في المرفأ من أجل فحص حاوية. وعرض آخر على رويترز وثيقتين من الجمارك كانت الأولى عبارة عن رفض مسؤولي الجمارك الطلب الذي تقدم به لتمرير شحنته بسرعة. أما الوثيقة الثانية فكانت تقضي بالموافقة على الشحنة.
وأضاف أن الفرق بينهما هو أنه دفع رشوة في المرة الثانية.
وقالت المصادر إن بعض الحمالين كانوا يتلقون أوامر بإخراج شحنات دون فحصها. وقال فؤاد بوارشي نائب الرئيس التنفيذي لشركة الجزائري للنقل إن أجهزة فحص كثيرة مستخدمة في تفقد البضائع لا تعمل على الوجه السليم. وأكد وكلاء ملاحيون آخرون روايته.
وذكرت المصادر أن عدم تسجيل القيمة الحقيقية للفواتير حيلة شائعة لتفادي دفع رسوم الاستيراد الكاملة. وأضافت أن التجار يدفعون الرشوة للساسة ووكلائهم في المرفأ لضمان تقييم الشحنات بأقل كثيرا من قيمتها الحقيقية.
وقالت لمياء بساط التي أجرت أبحاثا موسعة على النظم الجمركية إن الجهود الرامية لإصلاح المرفأ من خلال تركيب أنظمة آلية وتطبيق نظم للحد من الفساد قوبلت بمعارضة من كل الأطراف بما في ذلك الساسة ومسؤولي الجمارك والمرفأ ورجال الأعمال.
وقالت “لا يمكن لأحد أن يتغير دون تغيير النظام كله … طُرح اقتراح لتحديث سلطة المرفأ.” ولم يصل هذا الاقتراح الى مبتغاه.
ولم تقدم لمياء المزيد من التفاصيل.
وقالت إنها وباحثين آخرين قدموا لسلطات المرفأ دليلا لكيفية التعامل مع المواد الكيماوية بما في ذلك النترات. وأضافت “لا يمكن أن تتصور أن يكون بعض الناس بهذه اللامبالاة. هذا يفوق الخيال”.
* أسرة تبحث عن إجابات
تقول أسرة العقيد سكاف إنه كان يتعامل مع قضايا حساسة خلال فترة عمله في الجمارك بما في ذلك قضايا المخدرات. وقال المصدر المطلع على القضية إن بعض زملائه كانوا يحذرونه أحيانا ويطالبونه بتوخي الحذر بسبب طبيعة عمله.
وفي الساعات الأولى من صباح أحد أيام شهر مارس آذار 2017 تم العثور على سيارة سكاف متوقفة وأنوارها مضاءة قرب مسكنه. وكان رأسه مضرج بالدماء وجثته ترقد على أسفل حافة حائط مكشوف ارتفاعه نحو 1.8 متر.
كان سكاف قد تقاعد قبل ذلك بفترة قصيرة ورشح نفسه في انتخابات مجلس النواب عن بلدته في جنوب لبنان. وكان عمره 57 عاما.
وقال إيلي شقيق سكاف إن الطبيب الشرعي الأول الذي فحص الجثة أبلغه بأن العلامات الموجودة عليها تشير إلى أنه تعرض لاعتداء.
وتوصل تقريران طبيان اطلعت عليهما رويترز إلى أن سكاف أصيب بكسر في الجمجمة وإصابات أخرى منها تورم في العين وكسر في أحد الضلوع وكدمات. كان التقرير الأول هو تقرير اللجنة الطبية الرسمية في 2017. وقد خلص إلى أنه سقط مما أدى إلى نزيف في الدماغ تسبب في وفاته. ولم يذكر التقرير شيئا عن تعرضه لاعتداء.
ولم يقتنع إيلي فكلف خبيرا في الطب الشرعي بدراسة ملف القضية. وخلص الطبيب في التقرير الثاني الصادر في 2018 إلى أن إصابات سكاف تشير إلى تعرضه “لعمل عدائي مباغت وسريع نجم عنه سقوطه عن حافة حائط مكشوف”.
وقال التقرير إن سكاف تلقى “لكمة قوية على عينه اليسرى” و “رفسة محكمة جد قوية طاولت أسفل عظمة فص صدره”.
وعين إيلي محاميا طلب من السلطات اللبنانية إعادة النظر في القضية. ولم يرد متحدث باسم قوى الأمن الداخلي التي قال إيلي إنها تتولى القضية على طلب للتعليق. وأحالت وزارة الداخلية رويترز إلى قوى الأمن الداخلي.
وقال إيلي “صار لنا شي سنة .. ما عم نعرف شي. ما بقولولنا شي”.
ومس كفاح الأسرة للحصول على إجابات وترا حساسا في بلد نادرا ما يُحاسب فيه المسؤولون.
وقال ميشال نجل العقيد سكاف على وسائل التواصل الاجتماعي في أعقاب انفجار مرفأ بيروت “نُفذت جريمة في آذار (مارس) 2017. والدي لم ينزلق ولم يسقط. (العقيد) تعرض لاعتداء وحشي وقُتل أمام منزله. القضية لم تقفل والعائلة تنتظر تحقيقا جديا منذ ثلاث سنوات. ملف قضيته على مكتب يتراكم عليه التراب. نحن نريد تحقيقا حقيقيا جديا ونريد العدالة والحقيقة للعقيد جوزف سكاف”.