في شأن الصراع الأمريكي ــ الصيني المتفاقم على خلفية جملة من القضايا السياسية والتجارية والإستراتيجية، قلنا في مقال سابق إن أكثر ما سيغيظ النظام الصيني هو محاولة الإدارة الأمريكية إعادة الإعتبار إلى تايوان التي تعتبرها الصين إقليما منشقا.
ويبدو مما حدث مؤخرا من تطورات أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عازمة بالفعل على سلوك هذا الدرب تكفيرا عما فعلته إدارة الرئيس الجمهوري الأسبق ريتشارد نيكسون في السبعينات حينما ضحت بتحالفات وعلاقات واشنطون الوثيقة مع تايبيه لصالح الانفتاح على بكين وجر الأخيرة إلى صفها في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي السابق، لتتحول الصين بسبب هذا الإنفتاح الأمريكي خلال ثلاثة عقود إلى غول يهدد المصالح الأمريكية على مستوى العالم.
من هذه التطورات إيفاد ترامب لوزير الصحة الأمريكي أليكس عازار إلى تايبيه مؤخرا. وعلى الرغم من وصف واشنطون الزيارة بالروتينية ووضعها في سياق محدد هو التباحث مع المسؤولين التايوانيين في قضايا صحية متعلقة بجائحة كورونا المستجد التي نجحت السلطات التايوانية في احتوائه بصورة لافتة، إلا أن حدوثها في هذا التوقيت الذي تشهد فيه العلاقات الأمريكية ــ الصينية أزمة غير مسبوقة، وكونها أول زيارة رسمية معلنة لمسؤول أمريكي رفيع لتايبيه منذ قطع واشنطون علاقاتها الدبلوماسية مع تايبيه في عام 1979 يعنى قرارا أمريكيا باستخدام تايوان كورقة ضغط ضد الصين، لاسيما وأن في تايبيه اليوم رئيسة وحكومة تسعيان إلى إعادة تايوان إلى الساحة الدولية ككيان لا علاقة له بالبر الصيني، يساعدهما في ذلك تيار شعبي مؤيد جارف وفشل بكين في احترام تعداتها لجهة إدارة هونغ كونغ وفقا للمباديء التي تمّ الإتفاق عليها مع بريطانيا في الثمانينات.
رد بكين على هذا التطور، الذي وصفته بالمهدد للسلام والإستقرار، لم يتمثل في الإحتجاج الدبلوماسي كعادتها في مرات سابقة، وإنما تمثل هذه المرة في إرسال مقاتلاتها حربية لإختراق مضيق تايوان الفاصل بين الجزيرة “المتمردة” والبر الصيني قبيل وقت قصير من لقاء الوزير الأمريكي الموفد مع الرئيسة التايوانية “تساي إينغ وين”، علما بأن هذه المقاتلات هربت وعادت إلى مكان إنطلاقها بعدما تصدت لها المقاتلات المتطورة التي زودت بها واشنطون سلاح الجو التايواني.
ينظر المراقبون إلى ما حدث على أنه بداية لحرب باردة جديدة قطبيها الصين والولايات المتحدة وساحتها تبدأ من آسيا إلى أفريقيا مرورا بالشرق الأوسط. في الحرب الباردة القديمة دأبت واشنطون على وصف حلفائها ضد السوفييت ودول المعسكر الشرقي بالدول الديمقراطية الرشيدة الناجحة مقابل دول ديكتاتورية استبدادية فاشلة. وهذا ما كرره الوزير الامريكي الزائر على مسامع مستضيفيه التايوانيين من أنه لولا ديمقراطية بلدهم وانفتاحه وشفافيته وثقافة مجتمعه لما نجح وأبهر العالم، ليس في طريقة تعامله مع جائحة كوفيد 19 فحسب وإنما في مجالات أخرى كثيرة، مؤكدا على الشراكة الأمريكية ــ التايوانية وضرورة تعزيزها في مختلف الميادين من أجل خير البشرية جمعاء، وداعيا إلى منح تايوان عضوية المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية التي لا تتمتع تايوان بعضويتها بسبب معارضة بكين.
وبطبيعة الحال، هذا خطاب أمريكي مستجد لأن واشنطون منذ عام 1979 تحاشت التصريح العلني به، حفاظا على علاقاتها وروابطها مع الصين. وبعبارة أخرى فإن واشنطون طيلة العقود الماضية ناورت كثيرا كيلا تلتزم بطريقة واضحة وصريحة بسيادة الصين “المزعومة على تايوان أو ما عرف بـ “سياسة الصين الواحدة”، وهي السياسة التي كثيرا ما تحسست بكين من الدول الرافضة لها أو الدول التي حاولت المناورة حولها ولاسيما الولايات المتحدة بحكم أن الأخيرة وقفت بجانب تايوان وكانت سببا من أسباب نهضتها ونجاح نموذجها المضاد للنموذج الشيوعي الصيني.
والحقيقة أن سياسة واشنطون تجاه وضع تايوان كدولة منفصلة عن الصين أو كإقليم من أقاليم البر الصيني تميزت بالغموض. فمثلا في الوقت الذي حاولت فيه ألا تتحدى سياسة الصين الواحدة لم تقم بدعمه، مكتفية بالإعلان عن إعترافها بالصين فقط. ومما لاشك فيه أن مثل هذه السياسة الغامضة ــ سواء أكان ساكن البيت الأبيض رئيس جمهوري أو ديمقراطي ــ سمحت لواشنطون أن تبقي على سفارة أمريكية ضخمة في تايبيه، كما سمحت لها ببيع أسلحة متطورة للجيش التايواني الصيف الماضي بقيمة ثمانية مليارات دولار بدعم لافت من أعضاء الكونغرس.
على أنه منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شهدت المواقف الأمريكية تجاه تايوان تغيرات جذرية، شهدنا أولى تجلياتها في عدم تردده حيال استقبال مكالمة هاتفية من الرئيسة التايوانية في ديسمبر 2016 تهنئه فيها بفوزه برئاسة الولايات المتحدة. ومذاك عقدت إجتماعات أمريكية ــ تايوانية علنية على مستويات رفيعة متنوعة، منها إجتماع هام عقد في مايو 2019 بين مدير الأمن القومي التايواني “ديفيد لي” ومستشار الأمن القومي الأمريكي آنذاك “جون بولتون”. وفي السياق ذاته تجاهلت واشنطون إحتجاجات بكين إزاء سماح واشنطون للرئيسة “تساي إينغ وين” بقضاء أربع ليال على الأرض الأمريكية وهي في طريقها لزيارة بعض الدول الصغيرة التي لا زالت تعترف بتايوان وتقيم علاقات دبلوماسية معها مثل هايتي وسانتا لوشيا وسانت كيتس، علما بأن الضيفة التايوانية انتهزت وجودها القصير في الولايات المتحدة لعقد عدد من الإجتماعات مع أعضاء الكونغرس الأمريكي وبعض حكام الولايات، بل وتنظيم مؤتمر صحفي.
والحال أن واشنطون صارت لأول مرة منذ نهاية السبعينات تعامل تايوان كدولة ذات سيادة. لكن يبقى السؤال القائم هو “هل ستهرع الولايات المتحدة لنجدتها عسكريا في حال إقدام النظام الصيني على مغامرة حربية مفاجئة عبر مضيق تايوان؟“.
هذا السؤال رد عليه أحد المحللين السياسيين الأمريكان قائلا: رغم إفتقار واشنطون لمسوغ قانوني للتدخل ضد أي غزو صيني لتايوان، إلا أن الإدارة الأمريكية سوت تتدخل.. ربما عن طريق هجوم إلكتروني قادر على شلّ طاقة المنشآت العسكرية الصينية!
Elmadani@batelco.com.bh
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين