في خضم اضطراب البلدان العربية وسعي قوى الإسلام السياسي لقيادتها يمكن القول إن تركيا وإيران قسمت بينهما الحركات الإسلاموية.
يستمر احتدام الوضع في ليبيا وتتفاعل تداعيات تمدد المشروع التركي. كما تشهد الأوضاع في العراق ولبنان وسوريا تأزما وانهيارا اقتصاديا يتصل بتبعات تمركز المشروع الإيراني. وهكذا فيما تتهيأ الحكومة الإسرائيلية للإعلان عن خططها في ضم أجزاء من الضفة الغربية في استكمال إنهاء “وهم” حل الدولتين، يتم تقاسم النفوذ في العالم العربي من مشرقه إلى مغربه بين المشروعين الإقليميين الإمبراطوريين التركي والإيراني وذلك في سياق تنافسي أو تنسيقي حسب الموقع وحجم المصالح.
وإذا كان التمدد غير العربي من نتائج سقوط النظام الإقليمي العربي، فلم يكن لذلك أن يتحقق لولا مناهج القوى الكبرى التي لا تأبه إلا لتحقيق مصالحها في المقام الأول وتسمح بملء الفراغ العربي بتنامي مشاريع إقليمية توسعية تستفيد من غياب مشروع عربي أو مشاريع عربية بديلة.
وما يؤجج الصراع تمتع المنطقة العربية بأهمية اقتصادية وإستراتيجية كبيرة؛ ففي باطنها يوجد نحو 62 في المئة من الاحتياطي العالمي من النفط بالإضافة إلى الغاز والمعادن، وتقع هذه المنطقة وسط الكرة الأرضية وتمثل مساحتها 10.2 في المئة من مساحة العالم، ويطل موقعها على بحار ومنافذ بحرية مهمة، وهي تضم كتلة سكانية كبيرة. ولهذا كانت وما زالت تمثل مسرحا للمشروعات والمحاور المختلفة، التي سعت وتسعى إلى التحكم في تفاعلاتها والاستفادة من إمكاناتها، ومحاولة رسم خارطتها من جديد أو ترتيب التوازنات فيها.
منذ قرن من الزمن كانت الإمبراطورية العثمانية “الرجل المريض” وجرى حينها تقاسم تركتها العربية بين الأوروبيين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى. وحاليا يعتبر العالم العربي “الرجل المريض” في بدايات القرن الحادي والعشرين، ونشهد المسعى الجدي للهيمنة عليه وتقاسم النفوذ فيه، ليس فقط على صعيد الكبار في اللعبة الدولية، بل كذلك بين القوى الإقليمية المحيطة به.
خلال حقبة “الاضطراب العربي” أو (الربيع العربي) التي بدأت عام 2011، تسللت وراء الأمل في قيام “الموجة الديمقراطية العربية” ديناميكية جديدة واضحة لقوى صاعدة في الشرق الأوسط، تبلور عمليًّا لمستقبل من النفوذ التركي والإيراني على حساب “مستقبل عربي جديد”. ومما لا شك فيه أن الحروب والأحداث التي أعقبت موجات “التحولات العربية” أضعفت الدول العربية بشكل كبير، حيث تركتها معرضة لآثار التدخل الخارجي والتفكك الداخلي.
إذا نظرنا إلى الوراء، ربما ندرك أن الهزات التي بدأت في العام 2011 تسببت في تمزق حاد للمشهد السياسي في الشرق الأوسط مثلما حدث عام 1919، فبعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، قسمت كل من بريطانيا وفرنسا الشرق الأوسط العربي بينهما، وحصلت الأولى على نصيب الأسد.
أما في الحقبة الحالية فيبرز تارة التنافس بين طهران وأنقرة ويبرز طوراً التنسيق التكاملي كما حيال المسألة الكردية تحديداً. للوهلة الأولى كانت “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” تبدو بمثابة الطرف الرابح، لكن أحوال إيران والدول الواقعة في فلكها تبين هشاشة المكاسب. ومن هنا مع ما يحصل في العراق وسوريا وشرق المتوسط وصولا إلى ليبيا تبدو تركيا بمثابة الطرف الذي يتقدم في اللعبة الإقليمية تحت العين الساهرة لواشنطن وموسكو وفي ظل كسوف للأدوار الأوروبية.
في خضم اضطراب البلدان العربية وسعي قوى الإسلام السياسي لقيادتها يمكن القول إن تركيا وإيران قسمت بينهما الحركات الإسلاموية، فاتجه الأتراك إلى دعم الإخوان الإسلاميين من تونس إلى مصر، بينما اتجهت إيران إلى دعم النظام السوري والقوى والميليشيات الإقليمية التابعة لها ومنها حماس وبعض الراديكاليين من المسلمين السنة.
ونظرا إلى عدم وجود تيار ولائي تابع لإيران بشكل مكشوف في السودان وشمال أفريقيا، ظهر « الإخوان » وأندادهم في الإسلام السياسي باعتبارهم اللاعبين الأساسيين في المنطقة، مما جعل من تركيا الأردوغانية قوة صاعدة (بالتعاون مع قطر)، بينما لم تعارض إيران ذلك. وهذا السيناريو في القبول بدور الآخر والتكامل معه يمكن أن يحصل في لبنان حيث تحاول تركيا التمركز في بعض المناطق ولن يكون ذلك بالضرورة لمجابهة حزب الله، بل لمحاولة لعب دور بديل عن الأدوار العربية التاريخية.
أما في الشأن الفلسطيني فبالرغم من العلاقات التركية – الإسرائيلية المتينة منذ الخمسينات حتى عام 2002، أخذت أنقرة تحت حكم “حزب العدالة والتنمية ” تستمر في العلاقة مع إسرائيل وتقترب أيضا من النهج الإيراني في الاهتمام بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لصالح لعبتها الإقليمية؛ فمثلا عندما يتصل الأمر بحركة حماس يبرز تناغم حينا وتنافس أحيانا. في المقابل، مع تفاقم الوضع في سوريا برز الاختلاف الواضح بين تركيا وإيران؛ ففي الوقت الذي كانت فيه إيران تدعم نظام الأسد، كان الأتراك يدعمون معارضيه ويوفرون لهم الملاذ الآمن. مع ذلك، وفي إطار مسار أستانة برزت تفاهمات وتقاسم عملي لمناطق النفوذ تحت الرعاية الروسية. ومن هنا ربما يجد الطرفان طريقة لحماية مصالحهما الإستراتيجية والمالية أيا كان النظام الذي سيتولى الحكم في سوريا.
وبالفعل شهدت السنوات الأخيرة المزيد من التقارب الإيراني – التركي حيال المسألة الكردية والوضع في العراق. كما بدا في العملية العسكرية التركية الأخيرة في شمال العراق، حيث تسعى أنقرة إلى توسيع تنسيقها العسكري الثلاثي مع بغداد وطهران ليشمل مجالات الطاقة والتجارة في إطار تقاسم النفوذ بين تركيا وإيران في العراق وسوريا ومساعدة النظام الإيراني في الالتفاف على العقوبات الأميركية.
يظهر جليا من خلال هذا العرض غلبة عوامل التلاقي على عوامل التنازع بين المشروعين التركي والإيراني عندما يتصل الأمر بالعالم العربي. وبالرغم من الفارق بين الطرح الأيديولوجي لولاية الفقيه والإسلام التركي الذي احتضن آخر خلافة إسلامية وبالرغم من بلبلة تاريخية عثمانية – صفوية، اقترب رجب طيب أردوغان من كل تيارات الإسلام السياسي بما فيها التيار الذي يقوده الحكم الإيراني. وفي هذا المجال يمكننا القول إن لعبة المصالح المتبادلة تنظم الصلات بين الجارين اللذين يسكنهما الحنين إلى الأمجاد الإمبراطورية.