حينما تشاهد المسلسل الإسرائيلي “آل شتيسيل” على نتفلكس، والذي عرض بصورة درامية مثيرة تفاصيل الحياة الاجتماعية للأسر اليهودية المتشددة المنتمية لطائفة “الحريديم”، أو تشاهد الفيلم الوثائقي “one of us” على “نتفلكس”، والذي يحكي قصة خروج ثلاثة من اليهود من المجتمع “الحسيدي” المتشدد في الولايات المتحدة وكيف يواجه هؤلاء سوء المعاملة والنَبذ، ستأخذك المشاهد، شئت أم أبيت، إلى عالمنا المسلم!
بل قبل ذلك إلى الدين الإسلامي في تشابه شرائعه مع الشرائع اليهودية، ثم إلى الجماعات الإسلامية المتشددة بمختلف مسمياتها وأنشطتها، وأخيرا إلى الحياة داخل الأسر الإسلامية المتشددة.
إثر ذلك قد تتساءل: ما وجه الشبه في أسس الحياة الدينية المتشددة، وفي بعض تفاصيلها، بين المجتمعات اليهودية وبين تلك المسلمة؟ كيف تبدو القواعد والسلوكيات التي تنظّم سير الحياة المتشددة بين المسلمين؟ هل يعاني المسلمون الذين يعيشون في بيئات إسلامية متشددة، من ضيق كبير في أفق الحرية، ومن تقيّد صارم في الالتزام بقواعد السلوك الديني، ومن نبذ وسوء معاملة بل وعقوبات قد تصل إلى الإقصاء ضد كل من يتمرّد على القواعد الإسلامية أو ضد كل من يقرّر أن يعيش بصورة مغايرة عن الصورة المتشددة؟.
حتى لو طرحنا أمثلة لبعض السلوكيات المتشددة، الإسلامية أو اليهودية، أو حتى لأديان أخرى، غير أن سبب التمرد على هذه السلوكيات يبقى السؤال الأبرز والأهم في ظل عالم العلمانية والليبرالية والحريات واحترام حقوق الإنسان الذي نعيش فيه والذي يهيمن على مختلف شؤوننا. ففي الوثائقي تمرّدت امرأة يهودية على قواعد مجتمعها “الحسيدي”، بعد ما “أجبرت” من قبل زوجها على ممارسة الجنس معه، وحملها وإنجابها للأطفال (سبعة أطفال) دون أدنى احترام لـ”حقّها” و”إرادتها” في الموافقة على الحمل وعلى الإنجاب من عدمهما، وقيام زوجها بـ”ضربها” إذا خالفت أوامره وعارضت قوانين الحياة الحسيدية، ووقوف كبار رجال الدين الحسيديين إلى جانب الرجل دفاعا عن القواعد الدينية المتشددة.
أما في المسلسل، فشاهدنا تأكيدا على حظر امتلاك التلفزيون واستخدام الانترنت لأنهما يفسدان الأخلاق، وتشدّدا في الالتزام بالأكل الحلال، وفي عدم الاختلاط بين الرجال والنساء في مختلف المناسبات، وعدم الاختلاط بالعلمانيين ورفض قراءة الكتب العلمانية، وفي تغطية المرأة لشعرها بعد الزواج، وفي وصف غير اليهود بالشعوب الشريرة لأنها تسعى إلى الإضرار بالشعب اليهودي. فإلى أي حد يمكن أن تتشابه تلك الممارسات والسلوكيات والموانع اليهودية المتشددة، مع الممارسات الجارية في الوسط الإسلامي المتشدد؟ ثم ما مصير المسلم إذا تمرّد على هذه الممارسات أو على القواعد المتشددة؟
هناك الكثير من الأمثلة التي تشير إلى تشابه سلوك المتشددين في الديانتين، وخاصة ما يتعلق بكرامة المرأة واحترام إرادتها، وفي كيفية التعامل مع أتباع الديانات الأخرى، وفي التعاطي مع الأفكار العلمانية.
أمّا إذا ما تمرد المسلم على القواعد الدينية المتشددة، فإن مصيره في الغالب لن يكون أفضل من مصير المرأة اليهودية المتمردة، أو بعبارة أخرى، ستكون النتيجة إمّا الإقصاء الاجتماعي أو القانوني أو الاثنين معا. وهذه السلطة الإقصائية ليست إلّا انعكاسا لـ”الأنا” الجماعية للبشر الذين ينضوون تحتها، حسب الكاتب عمران سلمان، مضيفا: “مثل كل المؤسسات فهي تُفرض بصورة قسرية، وأحيانا تعسفية، طريقة معيّنة في التفكير والسلوك على باقي البشر، ما يجعل بعضهم يتمردون عليها”. ولنتخيّل الوضع إذا كانت هذه “الأنا” الجماعية، دينية، وتنطق بأوامر سماوية لا يأتيها الخطأ ولا الباطل؟ إن هذه السلطة لم تعد فحسب سلطة سياسية دينية (أو غير دينية)، بل أصبحت تعبّر عن نفسها من خلال سلطات أصغر، كالعائلة، المتديّنة، المتشددة، التي تفرض على بيئتها الاجتماعية الصغيرة قوانين السلطة السياسية الدينية الكبيرة، ولن نجد في وسطها تنوعا في الثقافات ولا تعددية في الآراء ولا سلطة إلا سلطة الفقه والنص والرجل المؤمن، فيما الأعضاء تابعون لشرائع هذا الفقه ولأوامر النص ولسلطة الرجل، بل وصاغرون.
لقد لجأت المرأة اليهودية التي تمردت على مجتمعها “الحسيدي” إلى مؤسسات المجتمع المدني للوقوف إلى جانبها والدفاع عن حقوقها في العيش بصورة مغايرة. ورغم أنها خسرت دعوى حضانة أطفالها السبعة، غير أنها ارتأت الاستمرار في حياتها الجديدة لإحساسها بالقيمة الإنسانية لذلك، ولوجود كيانات مدنية حقوقية يمكن أن تساندها في هذا الطريق.
وإذ تشير هذه التجربة، وغيرها الكثير، إلى ضرورة التفكير بالأوجاع التي يشكو منها المتمردون على أوضاعهم الدينية المتشددة في مجتمعاتنا المسلمة، إلّا أنها تؤكد الحاجة إلى تأسيس كيانات مدنية حقوقية يستطيع هؤلاء أن يلجأو إليها بغية الدفاع عن حقوقهم في العيش بصورة مغايرة.