في زمن كورونا وما بعده، لا بد للعبادة التقليدية الشعبية، التي أنتجتها المؤسسة الدينية التقليدية، أو المؤسسة الفقهية، أن تكون محل تساؤل ومراجعة.
ماذا نقصد بالعبادة التقليدية؟ هناك عدة تعريفات لهذه العبادة، منها أنها العبادة القائمة على معيار المصلحة، أي هي وسيلة لتحقيق هذه المصلحة. فبمقدار ما يظن المؤمنون بأن هذه العبادة تحقق لهم مصلحة دنيوية (وستحقق لهم المصلحة الأخروية)، يمكن قياس تمسك الناس بها، فإذا تحقق ظنهم، سيرتفع رصيدها الشعبي، أما إذا لم يتحقق ذلك، فلن يقل رصيدها إلا بمقدار تأثر المؤمنين بذلك ما قد يؤدي إلى تغيير توجهاتهم الدينية وكذلك الفكرية.
لكن، ماذا نعني بالمصلحة، الدنيوية والأخروية؟ نعني، وببساطة، المصلحة المادية الخالصة. فالهدف الثابت من ممارسة هذا النوع من التعبّد، وذلك عن طريق الطقوس، هو أن تتحقق مصالح الناس من خلال ذلك. فإذا كان الفرد المؤمن يعاني من مصاعب ومشاكل في هذه الدنيا، صحية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، فالعبادة هي وسيلة للنجاة. أما الجانب المصلحي الآخر فيتعلق بمرحلة ما بعد الموت أو الحياة الأخروية، بمعنى تحقيق هدف دخول الجنة وما يرتبط بذلك من ملذات مادية بحتة.
لكن، لماذا يجب أن يكون هذا النوع من العبادة، التقليدية، الشعبية، محل تساؤل ومراجعة، خاصة في زمن كورونا وما بعدها؟ لأسباب عديدة، من ذلك أنه أخفق في تحقيق مصلحة المؤمن التقليدي الشعبي فيما يخص ملف صحّته، حتى بات وجود العبادة التقليدية وعدمها واحداً. فالمؤمن التقليدي لم يعد يعوّل عليها للحصول على نتائج تخص الأمراض والأوبئة التي يعاني منها، بمعنى أن وسائله الطقوسية الساعية إلى تحقيق مصالحه فيما يخص موضوع الصحة دخلت مرحلة العجز ولم تعد تعينه ماديا ومصلحيّا.
لكن غالبية المؤمنين التقليديين، يرفضون الاعتراف بهذه النتيجة، بسبب عدم قدرتهم على اللجوء إلى بديل لهذه العبادة، ولخوفهم من الوقوع في “شر” اللادين والإلحاد وما يسمى بـ”الضياع”، فيرضون أن يكون مسعاهم الطقوسي فارغا دنيويا إن صح التعبير معوّلين على انتظار النتائج الأخروية، لذا يقبلون أن تظل أسئلة الحياة المادية ومشاكلها وقضاياها والتي تم ربط مصيرها بطرق العبادة، من دون إجابات.
غير أنه إذا تساءلنا: هل العبادة التقليدية، هي العبادة الوحيدة التي أنتجتها الأديان؟ فالجواب بالطبع هو لا، لكنها العبادة الأكثر انتشارا اليوم في العالم، بمعنى أنها العبادة التي تدغدغ غالبية مشاعر الناس فتجعلهم أسرى منظومة مصالح يهيمن عليها خطاب مقدس من نوع خاص وبآليات تشدّد على “التقليد” واللجوء إلى “الخرافة”. وهذا يعني أن أنواع العبادات الأخرى، كالعبادة المنطلقة من منهج التحقيق المعرفي والرافضة أن تكون مصلحية مادية، أو العبادة المنطلقة من الفلسفة الصوفية والقائمة في أساسها على الجانب المعنوي وتهذيب النفس، تختلف في مخرجاتها وفي تعاملها مع مسائل وقضايا الحياة المادية عن العبادة التقليدية.
من جانب آخر، نرى أن ﻓﻬﻢ ﺍﻟﺪﻳﻦ ثم ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﻟﺘﺪﻳّﻦ، ﺑﺎﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺘﺪﺍﻭﻟﺔ ﺑﻴﻦ غالبية المؤمنين، هما الفهم والممارسة المتداولتان في اﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ، ﺳﻮﺍﺀ ﺍﺭﺗﺒﻂ ﺫﻟﻚ ﺑﻤﺎ ﺗﻨﺘﺠﻪ ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﻔﻘﻬﻴﺔ من “فهم”، ﺃﻭ ارتبط ﺑـ”اﻟﻄﻘﻮﺱ ﺍﻟﺘﻌﺒﺪﻳﺔ” المؤكدة من نفس المؤسسة. ففهم ﺍﻟﺪين، ﻭﺍلطقوس ﺍﻟﺘﻌﺒﺪﻳﺔ، ﻟﻢ ﻳﺘﺄﺛﺮﺍ ﺑﺠﻮﻫﺮ ﺍﻟﺘﻐﻴّﺮ ﺍﻟﺤﺪاثي ﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﻓﻲ مختلف ﻣﻨﺎﺣﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، أﻭ بعبارة ﺧﺮﻯ لا يزال “الفهم” و”الطقوس” حبيسين في كنف ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ القديمة.
ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺍﻟﺘﻐﻴّﺮﺍﺕ التي حدثت في حياتنا، وهي ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻟﺘﺤﺪﺙ ﻟﻮﻻ توفّر ﺃﺭﺿﻴﺔ ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻴﺔ ﺗﻬﻴّﺊ لذلك، وﻛﺎﻥ ﻻﺑﺪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﻣﺴﻌﻰ ﻟﺮﺑﻂ “ﺍﻟﻔﻬﻢ” ﺍﻟﺪﻳﻨﻲ ﻭ”ﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺳﺎﺕ ﺍﻟﻄﻘﻮﺳﻴﺔ” بتلك اﻟﺘﻐﻴّﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻤﻴﺔ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ، ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﺒﻘﻰ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﻃﻘﻮﺳﻪ غير متوافقَين ﻣﻊ ﺻﻮﺭﺓ الحياة ﺍﻟﺮﺍﻫﻨﺔ. فـ”اﻟﻔﻬﻢ”، على سبيل المثال، ﻻ يعيش حالة عدم توافق ﻣﻊ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻭﻣﺨﺮﺟﺎت الحياة الحديثة، ﺑﻞ وﻳﺘﻨﺎﻗﺾ ﻣﻌﻬﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻟﺐ ﺍﻷﺣﻴﺎﻥ.
لا تزال ﺍﻟﻤﺆﺳﺴﺔ ﺍﻟﻔﻘﻬﻴﺔ تصر ﻋﻠﻰ ﺿﺮﻭﺭﺓ ﻋﺪﻡ ﺭﺑﻂ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺘﺪﻳّﻦ بتغيّر ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺗﻄﻮﺭ ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻬﺎ، ﻭتشدّد ﻋﻠﻰ ﻭﺻﻞ ﺍﻟﺘﺪﻳّﻦ بالتاريخ الثقافي والاجتماعي لظهور ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻭﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﻠﻘﻴﻪ ﻭﻃﺮﻳﻘﺔ ﻣﻤﺎﺭﺳﺘﻪ، ﻭتطلق صيحتها ﺍﻟﺮﺍﻓﻀﺔ ﻟﺘﻄﻮﻳﺮ ﻭﺳﺎﺋﻞ “ﻓﻬﻢ” ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻭتقف ﻓﻲ ﺍﻟﻀﺪ ﻣﻦ ﺃﻱ ﻣﺴﻌﻰ ﻳﻬﺪﻑ لإزالة ﺍﻟﺠﻤﻮﺩ ﻭﺇﺿﻔﺎﺀ ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ “ﺍﻟﻄﻘﻮﺱ”.
إن ﺇﺣﺴﺎﺱ الإنسان ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺪﻳﻦ، بـ”فهمه” ﺍﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻱ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻲ، ﻻ ﻳﻨﺴﺠﻢ ﻣﻊ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪﺓ ﻭﻻ ﻣﻊ ﺍﻟﺤﺪﺍﺛﺔ ﻭﻋﻨﺎﺻﺮﻫﺎ، ﻳﺤﻔّﺰ ﻓﻴﻪ ﻣﺴﻌﻰ ﺗﻐﻴﻴﺮ هذا ﺍﻟﻔﻬﻢ ﺑﺂﺧﺮ ﺣﺪﺍﺛﻲ ﻳﺘﻮﺍﻓﻖ ﻣﻊ عقلانية ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ.
كذلك، ﻻ ﻳﻤﻜﻦ للقوانين ﺍلمناهضة لحرﻳﺔ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﺃﻥ تتعاﻳﺶ ﻣﻊ مفهوم تعددية طرق ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ، ﻭلا يمكنها أن تتدﺧﻞ ﻓﻲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﺷﻜﻞ ﺍﻟﻄﻘﻮﺱ ﻭﻃﺮﻕ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ، ﺇﺫ سيؤدي ذلك ﺇﻟﻰ بروز ﺍﻹﻛﺮﺍﻩ وﻓﺮﺽ ﻧﻔﻮﺫﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ من خلال ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﺩﻭﺭﻩ ﺍﻹﻟﻐﺎﺋﻲ.
ﻭﺳﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺤﺼﻠﺔ ﺇﺟﺒﺎﺭ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺻﻮﺭ ﻃﻘﻮﺳﻴﺔ ﻣﺤﺪﺩﺓ، ﻭهذا ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻠﻘّّﻲ ﻣﻨﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﻤﺎﺭﺳﺔ ﺍﻟﺘﺄﻣّﻞ ﺑﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﺷﺘﻴﺎﻕ.
*كاتب كويتي