بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، هيمنَ شعار “لا شرقية ولا غربية” على السياسات الإيرانية. وكان الهدف من ذلك هو أن يتحرر رجال الدين، أو حكّام طهران الجدد، من أي خضوع للمعسكرين الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق، والغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وأن يسعوا لتبني سياسات مستقلة بعيدة عن أي ارتماء في أحضان القوى العالمية.
استمر الالتزام بهذا الشعار لفترة من الزمن، إلى أن أجبرت الظروف والمصالح الجمهورية الإسلامية على التخلي عن أحد مفاصله، وبرز ذلك بشكل واضح في الفترة التي تلت انتهاء الحرب مع العراق، فتحوّل الشعار إلى “لا لأمريكا” ونعم للتعاطي مع بقية المعسكر الغربي، فيما سقط شعار “لا شرقية” بالكامل بعد تفكك الإتحاد السوفييتي وبروز قوى جديدة مؤثرة، كروسيا والصين اللتان رسختا علاقاتهما مع إيران بناء على التغييرات الجيوسياسية التي حدثت، فاستثمرت إيران ذلك وراهنت على سياسات هاتين الدولتين للوقوف في وجه “العدو” الأمريكي.
غير أن رهان القادة الإيرانيين أدى إلى الإرتماء في أحضان القوى الجديدة والخضوع لها. وقد حصل ذلك بعد فشل بناء منظومة سياسية مستقلة قائمة على نظرية ولاية الفقيه الدينية. فالمنظومة الإيرانية التي أطلقت شعار “لا شرقية ولا غربية”، باتت تستميل قوى مثل الصين وروسيا لكي تساعدها في مواجهاتها مع “الشيطان الأكبر”، فتجاوزت هذه الاستمالة مفهوم “التحالف” وأصبحت تسبح في بحر الخضوع لشروط اللعبة السياسية الروسية والصينية.
ظهرت شواهد ذلك في عدة مواقع، بداية من تراجع الجمهورية الإسلامية عن تنفيذ شعارها الداعي إلى الدفاع عن المستضعفين المسلمين أينما كانوا. فرأيناها تلتزم الصمت إزاء ما يحدث من انتهاكات ضد المسلمين في الصين وفي الشيشان (التي تُعتبر إحدى جمهوريات روسيا الإتحادية) بل كانت في كثير من الأحيان تبرّر للدولتين انتهاكاتهما بحجة ضرب الإرهاب القاعدي والداعشي. كذلك، خضعت طهران لسيناريو المصالح السياسية لبكين وموسكو في النزاعات الدائرة في المنطقة، ومنها في سوريا ولبنان واليمن.
ومؤخرا شاهدنا كيف بدت الشكوك تحيط ببعض مواقف إيران الرسمية المدافعة عن الأرقام والمعلومات الصينية المتعلقة بانتشار فيروس كورونا فيما وضعت الكثير من دول العالم علامة استفهام كبيرة أمام هذه الأرقام، وقد وصل الأمر ببعض المحللين للقول بأن سيناريو المعلومات الصينية قد يكون جزءا من خطة “محكمة” لتوريط بعض الدول بالمرض.
وكان الدفاع الرسمي الإيراني عن الأرقام الصينية سببا في ظهور انقسامات داخل إيران، وفي بروز نقاشات تتصدرها عناوين وأسئلة مثل “الخضوع للصين” و”هل القرار السياسي الإيراني مستقل؟”.
ومِن أبرز مَن علّق على هذا الموضوع، النائب الإيراني المحافظ والمثير للجدل علي مطهري، الذي هاجم موقف بعض القوى، كالحرس الثوري والخارجية الإيرانية، حينما احتجّ على تصريحات مساعد وزير الصحة الإيراني كيانوش جهانبور الذي شكّك في الأرقام والمعلومات الصينية مما حدى بالسفير الصيني لدى طهران إلى مهاجمة جهانبور.
وقال مطهري إن الاحتجاج لم يكن في محله، وأنه “يجب على وزارة الخارجية استدعاء السفير الصيني”. وأضاف: “لسوء الحظ دفعتنا حاجتنا الاقتصادية للصين إلى التزام الصمت حيال القمع الجماعي الذي تمارسه الحكومة الصينية ضد المسلمين في هذا البلد. لم يكن من المفترض أن يؤدي صراعنا مع الولايات المتحدة إلى الخضوع للصين”.
في حين علق رجل الدين الإيراني نجفي تهراني على الموضوع بالقول بأن الجمهورية الإسلامية لم تستطع أبدا أن تلتزم بتنفيذ شعارها “لا شرقية ولا غربية”، وكانت خاضعة دائما لروسيا والصين، فيما كان يجب أن تختار التوازن بين الشرق والغرب حفاظا على مصالحها.
وكان جهانبور انتقد الموقف الصيني من تفشي الفيروس، وقال: “الصين رمت العالم بمزاح مؤلم حول فيروس كوفيد-19، وأغلب دول العالم تعاملت مع الفيروس وفق المعلومات الصينية وتخيلت أنه مرض أشبه وأسهل من الرشح العادي (الأنفلونزا)، ولكن الأمر ليس كذلك”.
بِتَخلّيها عن شعار “لا شرقية ولا غربية”، يمكن لنا أن نتساءل: لماذا لا تزال الجمهورية الإسلامية تتشدّد في رفع شعار “لا لأمريكا”، أو شعار “الموت لأمريكا”؟
حسب العديد من الباحثين، ومنهم استاذ العلوم السياسية في جامعة طهران صادق زيباكلام، فإن الخطاب المعادي للغرب جاء إلى إيران عن طريق التيار الماركسي. وحينما انتصرت الثورة الإسلامية وهيمن التيار الإسلامي على مفاصل الدولة، احتضن هذا الخطاب، وأعاد إنتاجه وتفسيره ما أصبح أحد أسس رؤيته الإسلامية العالمية التوسعية.
وحسب زعم بعض القيادات الإيرانية، كانت الثورة في طبيعتها مناهضة لأمريكا وللغرب، وكان هدف مرشد الثورة السابق آية الله الخميني من إسقاط نظام الشاه هو مواجهة الغرب والولايات المتحدة، باعتبار أن ذلك في الأساس يعني مواجهة “الاستكبار العالمي” والوقوف في وجه الظلم الذي تتعرض له شعوب المنطقة. غير أن زيبا كلام ينفي وجود أي خطاب معاد للغرب ولأمريكا في أدبيات الثورة وفي شعارات متظاهريها، ويؤكد بأن أولويات الثورة كانت ترتكز على معالجة الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المحلي.
يشير محللون أنه بتطور الظروف وتغير الأوضاع في إيران بعد سقوط نظام الشاه، كانت هناك حاجة لدى قادة الثورة لتبني خطاب سياسي مناهض لأمريكا، وذلك كاستراتيجية يمكن من خلالها تثبيت أركان الدولة بوصفها الحامي الحقيقي عن الشعوب “المستضعفة” التي تعرضت “لظلم” أمريكا وحلفائها، وكذلك السعي لتحقيق التوسع في المنطقة عن طريق تصدير الثورة وتغيير الأنظمة أو تغيير شروط اللعبة السياسية من خلال زرع خلايا في دولها.
ورغم المشاكل والصعوبات العديدة التي واجهت الإيرانيين جراء تبنيهم لهذه الاستراتيجية، إلا أنها لا تزال على رأس خطابهم السياسي، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى إمكانية التخلي عنها، فهي الطريق الوحيد الذي يحقق لهم هدف الهيمنة والتوسع.
*كاتب كويتي