(الصورة: الدبابات العراقية تجتاح مدينة الكويت صبيحة يوم الغزو)
حين نرجع بالذكريات إلى الوراء ونتمعن في الظروف التي صاحبت الأزمة التي أزالت كيان الدولة، وكيف كان البعض يتأمل “كويت جديدة” بعد زوال الغزو، ويتوقع كتابة تاريخ جديد، ويتحدث عن أحلام قد تصبح حقيقة في خضم الآلام، إذ لا ألم أقسى من ألم الاحتلال ولا جُرح أعمق من جُرح محو الوطن وإزالة اسم الكويت من على الخارطة.
إلا أن هذه الأحلام وهذا التاريخ الجديد تبدّد مثل الدخان، رغم الكم الكبير من الوعود السلطوية، ورغم بعض التفاعل الشعبي بولادة واقع جديد تتم فيه المساءلة والمحاسبة والبناء بشكل مغاير يهيمن عليه العامل الحقوقي والإنساني.
لكننا عدنا بعد التحرير نجتر المشاكل كما قبله، نرفع ذات الشعارات، نردّد نفس الإجابات القديمة لأسئلتنا الجديدة، نمارس المزيد من الانتهاكات والتعديات الحقوقية والإنسانية وكأننا لا نريد أن نتعلم من الدرس القاسي. بل كيف يمكن أن نتعلم من هذا الدرس فيما لم نسعَ لتغيير ما في ذواتنا من ثقافة بائسة، وما في داخلنا من وعي لا يمكن أن يصنع حلم التغيير أو يحقق هدف بناء كويت جديدة.
فلا السلطة كانت مختلفة عما كانت عليه قبل الغزو، ولا غالبية الشعب كان مدركا معنى التغيير وأهمية مرحلة ما بعد التحرير. فثقافة التغيير لبناء دولة حديثة، دولة تتجاوز سلبيات ما كنا عليه في الثمانينات والسبعينات والستينات من القرن الماضي، كانت غائبة عن غالبيتنا. فداخلنا كان كما هو رغم بعض المواقف المسؤولة النابعة عن وعي إنساني مغاير، وأنفسنا لم تكن مهيأة لمرحلة حقوقية جديدة رغم مختلف التوقعات، فكيف إذن يمكن أن يحدث التغيير، أو كيف ستكون هناك كويت جديدة بعد التحرير؟
لا شك لديّ بأن نفس هذا السيناريو سوف يتكرر بعد انقشاع وباء كورونا. بل وأثناء ارتفاع وتيرة تفشى المرض وذعر الناس، تصاعدت بقوة رائحة الفساد الناتجة عن سلوك تجار الإقامات المتواطئين مع الحكومة. وهو ليس وليد اليوم، لكن كورونا هو الذي كشفها، وكشف عن خشية المواطنين من انتقال المرض إلى العمالة المهمشة ومن ثم إليهم. فلولا المرض لما ارتفع صوتنا ضد فساد تجار الإقامات، بل نحن ارتأينا قبل انتشار المرض، السكوتَ مقابل شكوى العامل المهمش من ظلم هذا التاجر، خاصة في المسائل التي تخص إقامته القانونية وفي توفير العمل له وفي ضمان حقوقه للعيش بكرامة، وكأنه يعيش عبودية جديدة.
فقبولنا لهذه العبودية هو الذي يجب أن يطاله سيف الوعي.
إن سلوك تجار الإقامات هذا أنتج خليطا مكونا من الفساد والمرض، وأخرج لنا وضعا معقدا قد يصعب السيطرة عليه. حتى أن بعض المتطوعين في مواقع مواجهة كورونا في المناطق المتكدسة بالعمالة المهمشة والتي تتصف بوضع غير صحي وفوضى عارمة، تعالت أصواتهم مطالبين الحكومة بعدم بيع الكويت لأجل عيون الفاسدين، على الرغم من أنها – أي الحكومة – هي التي تواطأت في إيجاد هذا الفساد.
لذا، هل نتوقع من الحكومة أن تغيّر سلوكها المتواطئ مع الفاسدين، وأن تتخذ، حاليا أو في المستقبل، موقفا ضد هؤلاء التجار، وضد هذا الوجود العمالي المهمش، وضد العبث بالتركيبة السكانية، وضد الفساد بشكل عام؟
قد تقوم الحكومة ببعض الخطوات لمواجهة تلك المعضلة، وقد تتحدث بصوت إعلامي صاخب، لكني على ثقة بأن خطواتها سترتكز على عملية ترحيل العمالة، وقد تقرّر معاقبة بعض التجار، لكنها ستتحاشى الاقتراب من آخرىن نافذين، لصعوبة عملية الاقتراب، ولخطورته. أي أن خطواتها سترتكز على كيفية ممارسة اللعبة السياسية المطلوبة دون أن تستند في ذلك إلى خطة استراتيجية وطنية لمعالجة ملف الفساد برمته. فكيف يمكن للمتواطئ أن يعالج الفساد؟ وكيف يمكن أن يكون الحكم أمام الخصم؟ بل كيف يمكن للحكومة ممارسة الإصلاح فيما الآليات الراهنة، التي تتمسك فيها الحكومة، مساهمة في إنتاج الفساد وتحتاج إلى إصلاح وهناك مطالب شعبية لتغييرها؟
لذا لم تكن هناك “كويت جديدة” بعد التحرير من الغزو العراقي الغاشم، ولن تكون هناك “كويت جديدة” بعد التحرير من وباء كورونا. فطريق الإصلاح طويل، ولا يمكن للصدمات وحدها أن تقتلع جذور الفساد أو أن تهيئ الأرضية لزرع الإصلاح والتغيير.
فهناك عوامل أخرى عديدة يجب أن تطل برأسها. وأتصور بأن أهمها هو الوعي الإنساني والحقوقي، أو بعبارة أخرى سعي كل شخص فينا إلى تغيير ما يكمن في داخله من فكر وسلوك مناهض للإصلاح، وصولا إلى تحقيق التغيير الاجتماعي.