لا وقت للخوض في حفلة المناكفات التي أطلقتها الحكومة العراقية والأحزاب والمجموعات المسلحة المشكّلة لها والمهيمنة على إدارة قرارها، للبحث عن طرف يتم تحميله مسؤولية المجزرة التي ارتكبت مطلع أكتوبر (تشرين الأول) في بغداد ومدن أخرى، بعد محاولة التبرؤ من التبعات القانونية والأخلاقية لقتل أكثر من 100 متظاهر أعزل وجرح نحو 5000 آخرين بالرصاص الحي الذي قتل وجرح أيضا عناصر في الجيش والشرطة.
لكن من الضروري الكشف عن بعض المعطيات التي سبقت وصاحبت وأعقبت أحداث أكتوبر، وسوف تشكل المشهد العراقي لمرحلة قادمة قد تكون طويلة:
أولا: في أسباب احتجاجات تشرين الأول
يمكن رصف قائمة طويلة من المطالب والمظالم الشعبية المشتركة على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تمتد إلى سنوات طويلة سابقة، وهي تخص كل الفشل السياسي في إدارة العراق ليس بعد 2003 فقط بل ما قبل هذا التاريخ.
وهذه المظالم التي تخص الفقر وانهيار البنى التحتية وتراجع الخدمات والصحة والتعليم والاتصالات والتضخم والكساد وشحة فرص العمل والفساد المترامي الأطراف والشكوك في العمليات الانتخابية وعدم الاقتراب من العدالة الاجتماعية تشكل بمجملها مرصوفة أسبابا جاهزة للاستخدام في أي حركة احتجاج في أي مدينة وكل وقت.
الحاكم الفعلي في العراق يجب أن يميط لثامه، ويجب أن يتحمل مسؤوليته
وكإطار عام، فإن تأليف الحكومة الحالية جاء من دون غطاء قانوني وشعبي كاف، من خلال تحريف مفهوم “الكتلة الأكثر عددا” الدستوري، وهو ما مثّل إحباطا شعبيا عاما، بعد الإحباط الذي ترجمته المقاطعة الهائلة للانتخابات في 2018، والتي لم يتم النظر إليها كظاهرة سياسية خطرة قد تترجم إلى فعل شعبي أخطر على الأرض.
ومع حصول رئيس الحكومة عادل عبد المهدي حينها على قبول شعبي نسبي بعد مبادرته إلى فتح المنطقة الخضراء وإزالة الحواجز الإسمنتية من الشوارع ومحاولة إعادة الحياة الطبيعية إلى نصابها، بالإضافة إلى محاولته حل مشكلة الكهرباء والتوجه لعقد اتفاقات كبيرة للإعمار، إلا أن سلسلة من الأخطاء والممارسات الغريبة أقدمت عليها حكومته خلال الشهرين الأخيرين، مثلت في حقيقة الأمر مقدمة وتمهيدا (مقصودا أو غير مقصود) لدفع الناس إلى الساحات:
ـ جمعت حكومة عبد المهدي مبكرا، مئات الآلاف من الشباب الغاضبين على سياسات وزارة الاتصالات العراقية، في مجال خدمة الإنترنت، عبر قرارات أدت إلى ضعف الخدمة عما كانت عليه، ولم تقدم الحكومة أي تفسير لهذه القضية الحيوية، كما أنها لم تكن تهتم أساسا بدراسة تأثير تراجع جودة خدمة الإنترنت والاتصالات على الشباب.
ـ دفعت حكومة عبد المهدي مئات الآلاف آخرين من الغاضبين عليها ومعظمهم من الشباب والفقراء وأصحاب المهن الحرة، عندما قررت، من دون إجراءات بديلة، إزالة عشرات الباعة الجوالين من الأسواق الشهيرة في بغداد، وتناست أن اقتصاد هذه الأسواق كبير الحجم، وأن العاملين فيها معظمهم من الشباب، وأن بعضها، مثل سوق الكرادة، لم يجرؤ حتى النظام السابق على إزالته خوفا من غضب الشباب.
ـ أضافت الحكومة آلافا إضافية من الغاضبين عبر قرار إزالة المنازل العشوائية، وأيضا من دون البحث عن بديل لسكانها المعدمين.
ـ عالجت الحكومة سلسلة من التظاهرات المطلبية خلال الأشهر الماضية بنوع من التجاهل، إلى درجة إنتاج مشهد ضرب متظاهرين من حملة الشهادات العليا الباحثين عن عمل بخراطيم الماء الحار لتفريقهم وبينهم شابات جرى ترهيبهن بطريقة هزت الشعور الشعبي العام.
ـ لم يقرأ رئيس الحكومة بشكل دقيق خطورة استقالة وزير الصحة في حكومته علاء الدين العلوان، والتي كانت علنية وسببها واضح، وهو استشراء الفساد في وزارته وعدم قدرته على مواجهة ضغوط أطراف أقوى من سلطة وزارته تدير ملفات الفساد، وكان رد عبد المهدي برسالة عاطفية علنية، دعا فيها الوزير إلى أخذ إجازة طويلة بدلا من إعلان فتح التحقيق بالاتهامات التي ساقها!
يمكن القول، إن موقف المرجعية الدينية في النجف كان أكثر نضجا وتطورا
ـ كل ذلك جرى خلال شهري أغسطس وسبتمبر من هذا العام، حيث كانت كتلة الحطب المتهيئة للاشتعال تتعاظم بشكل واضح وبيّن للجميع، وهي كانت بحاجة إلى عود كبريت فقط لإشعالها. وشكلت الطريقة التي تعاطت من خلالها الحكومة مع قضية نقل الفريق عبد الوهاب الساعدي من موقعه، ومن ثم الأمر بإزالة تمثال شُيّد له في مدينة الموصل على الرغم من تظاهر سكان المدينة لحماية التمثال، هي عود الكبريت الأول الذي نجح في دفع بعض الشباب في وسائل التواصل الاجتماعي إلى الدعوة إلى التظاهر يوم 1 أكتوبر (تشرين الأول).
ـ لم يكن مقدرا لتلك التظاهرة أن تتحول إلى ما تحولت إليه، حيث كان عدد الحضور محدودا حتى بعد خمس ساعات من انطلاقها، لولا أن الأجهزة الأمنية، قررت استخدام عود الثقاب الثاني لحرق كومة الغضب، عندما واجهت المتظاهرين بقمع غير مسبوق، وقررت فتح الرصاص الحي الذي تطور في مساء ذلك اليوم والأيام التالية إلى عمليات قنص وقتل متعمد عن قرب للمتظاهرين، واعتقال للجرحى منهم، وتعذيب المعتقلين للبحث عن اعترافات تدعم نظرية المؤامرة، بالإضافة إلى ترهيب العشرات من وسائل الإعلام واقتحامها وتدميرها لمنعها من البث، وقطع خدمة الإنترنت بالكامل.
ثانيا: في التعاطي مع مطالب التظاهرات
يمكن القول إن مستوى التعاطي السياسي مع التظاهرات لم يكن بمستوى الحدث، حيث تم التركيز على قضايا محددة مثل عرض وظائف حكومية في دولة تعاني تضخما في كادرها الوظيفي يعد من بين الأكبر عبر العالم نسبة إلى عدد سكانها، بالإضافة إلى وعود عامة حول السكن وتطوير الأداء في مجال مكافحة الفساد، وإجراء تغيير وزاري استفادت منه الأحزاب نفسها التي شكلت الحكومة!
كما يمكن القول، إن موقف المرجعية الدينية في النجف كان أكثر نضجا وتطورا، ابتداء من اقتراحها تشكيل لجنة مستقلة لتحديد أطر الإصلاح العامة بديلا عن الانشغال في الحلول الترقيعية، وصولا إلى تحميل الحكومة مسؤولية “مجزرة تشرين”، ومنحها أسبوعين للكشف عن الجهات التي فتحت النار على المتظاهرين العزل، وشكل هذا الموقف دافعا إضافيا لمنع إغلاق ملف الجرائم التي ارتكبت ويراد إغلاقها.
ويبقى الأصل في التعاطي مع المطالب التي أشعلت التظاهرات من خلال ما قدمه المتظاهرون أنفسهم من مطالب، وتضمنت حلولا جوهرية لإصلاح النظام السياسي برمته من خلال حزمة قوانين وإصلاحات تبدأ بقانون انتخابات عادل ومفوضية نزيهة وإشراف أممي على الانتخابات مع الأخذ في الحسبان الذهاب إلى انتخابات مبكرة وإنهاء نظام المحاصصة، مرورا بتفعيل قوانين وإجراءات الخدمة العامة والقضاء على الفساد، وانتهاء بوضع خطط منهجية لتوفير الخدمات والتعاطي مع أزمات الشباب.
ثالثا: في جدلية الشعب والحاكم
حتى وقت قريب كانت الدعوة إلى الحركات الاحتجاجية العراقية وقيادتها يكون على يد نخب ثقافية ومنظمات مدنية، وكان التعاطي مع التظاهرات عنيفا أيضا لكنه يمثل قرارا مباشرا لسلطة الحكومة العراقية.
اليوم يجب الاعتراف بحقيقتين أفرزتهما التظاهرات الأخيرة؛ أولهما أن ثمة شعب آخر من المضطهدين والمتضررين والشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم 25 سنة، لديهم رموز شبابية غير معروفة ومختلفة تماما عن النماذج السابقة يتجمعون حولها، ويستمعون إليها، كما يمكن الاعتراف أن مستوى الزخم الشعبي لهذه التظاهرات الأخيرة التي خلت من القيادات الواضحة ومن التنسيق المسبق ومن الأحزاب السياسية، مثل مفاجأة للجميع، وهي ظاهرة جديرة بالدراسة باعتبارها اكتشافا لشعب آخر مواز لم يكن يفهمه أحد، مقابل شعب يفهمه الباحثون والمثقفون العراقيون وربما الأحزاب أيضا.
عالجت الحكومة سلسلة من التظاهرات المطلبية خلال الأشهر الماضية بنوع من التجاهل
في المقابل، يواجه الجميع حقيقة أخرى أكثر إحراجا تتعلق بنوع الحاكم الذي يجب التفاهم معه في العراق اليوم. فبعد الارتباك واضطراب الرؤية الذي أطر تعاطي الحكومة مع الأحداث، بدأ للمرة الأولى حديث صريح عن ضرورة أن يتم التوجه بالتفاوض إلى صاحب قرار إطلاق النار على المتظاهرين، خصوصا إذا كانت قدرته على فتح النار على الناس خارج إرادة الحكومة مستمرة وغير قابلة للتقويض مستقبلا.
وهذا الحديث الصريح الذي يتم تداوله، أصبح ضروريا اليوم أكثر من أي وقت سابق، فالحاكم الفعلي في العراق يجب أن يميط لثامه، ويجب أن يتحمل مسؤوليته، ويجب أن يتم التعاطي المباشر معه لا مع أطيافه.