لم تولد لحظة “14 آذار” مبتدئة ومتعثرة تبحث عن هويتها. فهي ولدت ناضجة عاقلة وواضحة. تعرف الى اين تريد ان تصل.
لذا كان لا بد من اغتيالها. وسريعاً جداً، بل أسرع مما كان يتصور أصحاب المخطط الذين ساهم إجرامهم في انطلاقتها وقدرتها على حشد أكثر من مليون لبناني لا طائفة لهم الا الوطن وحريته وسيادته واستقلاله، ولا مطلب لهم الا خروج وصاية النظام الأسدي ومحاسبة مرتكبي جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه.
كان القائمون على تلك اللحظة واثقين مما يريدون والى اين يجب ان تذهب بمفاعيلها ووهجها ونصاعتها.
لذا كان لا بد من فكفكتها، كأيّ بناء صلب وشامخ، فاستهدف المجرمون القائمين عليها بالتفجيرات. وهذا ما حصل. عبوة من هنا لسمير قصير وأخرى من هناك لجورج حاوي وثالثة من هنالك لجبران تويني. ورابعة وخامسة وسادسة لبيار الجميل ووليد عيدو ووسام عيد. واستفراس في عشوائية القتل. ومن ثم عودة الى الانتقائية مع وسام الحسن ومحمد شطح. وقبل ان يلتقط جمهور “14 آذار” أنفاسه من الجريمة الأولى تكون الثانية قد وقعت. وبدأ توزيع البقلاوة، لأن القاتل يعرف بماذا يحتفل ولماذا. اغتال مفكري “14 آذار” ومنظّريها، وترك سياسييها ليرتعبوا ويتعظوا وينصاعوا.
علمَ ان التفاهم مع أصحاب المصالح أسهل وأجدى من التفاهم مع أصحاب المبادئ. وكم كان أصحاب المخطط بارعين، سواءً بافتعال “أحداث شغب” تهدد البيئة المسيحية احتجاجاً على “الرسوم الدانماركية”، ليصار الى قطف محصول هذه الاحداث في المساء ذاته وفي كنيسة مار مخايل التي كانت خط تماس بين الشياح وعين الرمانة، من خلال تفاهم “6 شباط”، وذلك بعدما كان الترتيب لهذا التفاهم قد طبخ حتى قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
واستُكمل المخطط بحرب تموز 2006، التي كانت تهدف الى ارغام الوطنيين على اجراء فحص دم بالوطنية وفق مقاييس المحور وأذرعه، لأنهم ارادوا القول ان الاغتيالات تفاصيل تافهة مقابل معادلة قوامها إما العداء لإسرائيل وإما العداء للمقاومة، ليتوالى اختراع المقاومات التي بعدما انتهت من التنكيل بنا بحجة العدو الصهيوني واعتصام وسط بيروت و7 أيار المجيد، أُعلِنت مقاومة القضاء على الإرهاب الذي اخترعه المحور وغذّاه، وها هو اليوم يتنطح لإعلان أحدث التقليعات، أي مقاومة الفساد وبتكليف شرعي.
يبقى السؤال: مَن في البيئة المنكوبة بهذه المقاومة سيصدّق ان في الإمكان النيل من أثريائها الجدد الذين امعنوا في الفساد بحجة انهم مقاومون؟
في المقابل، بدأ الاستسلام التدريجي للأحزاب التي استثمرت في بهاء الحركة لتكريس حيثيتها، وامتهنت العدّ التنازلي وخلع كل مقوّمات “14 آذار” ورميها على قارعة المصالح.
هكذا أعطى المخطط ثماره، وبنجاح جعل الغرور يتملك المحور الذي أمسك بكل خيوط اللعبة. تشارك وتواطأ مع من يفترض انهم ضحاياه، فأقنعهم، وهم، بكل أسف، اقتنعوا بأن نقل أزمة وجوده خارج الدولة الى الإقليم أجدى وأفعل، معتبرين ان هذا الوجود أكبر من طاقتهم على التصدي له. لذا هادنوه وعقدوا معه الصفقات والتسويات.
بُليت “14 آذار” بقتل صنّاعها وتهميشهم، وتسلّم زمام أمورها زعماء أحزاب منحهم التاريخ فرصة الخروج من الطائفة الى الوطن، لكنهم تراجعوا من الطائفة ليتقوقعوا في المذهب. ربما هالهم ان جمهورهم نسي الحاجة الى مرجع يحميه، فلا يستغني عنه. فخافوا من حلم هذا الجمهور بوطن أكبر من الطوائف والمحسوبيات. أقلقهم خروجه الى مساحة رحبة منحته إياها لحظة “14 آذار”، لذا اعادوه الى حيث يمكنهم ان يتحكموا به. المؤسف انه عاد وارتضى ربط مصيره بما يقرره الزعيم. لم يؤمن او يصدّق بأن “14 آذار” اذا ما تابعت خطها الواضح وسع مساحة الوطن، قادرة على توليد مسؤولين يعملون ضمن مؤسسات، بعيداً من الوراثة السياسية والاحتكار واختصار الطوائف والمذاهب بأشخاص.
لكن، على رغم الإحباط المهيمن على مسيرة 14 عاماً منذ لحظة “14 آذار”، لم ينتبه أصحاب المصالح الى ان هذه الحركة لم تطعن في السن. الواقع انها تبتعد وتنتظر على قارعة مصالحهم لحظة انبعاث تبدو اليوم شبه مستحيلة.
فهي، وإن حسبوا انهم اعادوها الى لحظة ما قبل الولادة، وساروا بها عكس الطبيعة وعكس الزمن، الا ان هذه اللحظة لا تزال في مكان ما تنتظر مَن يحقق ربيع سمير قصير وقَسَم جبران تويني وتجاوز سمير فرنجية زمانه الى حيث يجب ان تكون الحرية والسيادة والاستقلال.
sanaa.aljack@gmail.com