قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخير بسحب نصف قواته (ما لا يقل عن 7000 عنصر) من أفغانستان يذكرنا بقرار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن في نوفمبر 2003. وقتها وصفنا ذلك القرار، في مقال صحفي، بالقرار المتعجل الخاطيء على الرغم من ضعف قوة حركة طالبان آنذاك. قلنا حينها أن قرار بوش ستكون له تداعياته الخطيرة على أفغانستان المنهكة التي تحتاج إلى زمن طويل لإلتقاط أنفاسها وبناء قوتها الذاتية قبل تفكير واشنطون والغرب في أي انسحاب.
اليوم نكرر الشيء نفسه من منطلق أن الأخطار التي تواجهها حكومة كابول أكبر من أي وقت مضى على ضوء الهجمات والانتصارات التي تحققها ميليشيات طالبان إلى درجة أنها باتت تتحكم في مناطق واسعة من الريف الأفغاني وتـُجمع من سكانها الضرائب تحت التهديد والوعيد.
إن قرار ترامب المذكور سيعطي إنطباعا خاطئا للطالبانيين وأنصارهم في باكستان وإيران بأنهم هزموا واشنطون والغرب، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى السلطة في كابول، وأن الأوضاع ستعود إلى ما كانت عليه قبل الضربات الجوية الأمريكية التي أخرجت الملا محمد عمر وأتباعه من السلطة سنة 2001، وبذلك “كأنك يا بوزيد ما غزيت” أي أن أرواح الآلاف من الجنود الأمريكيين والأفغان ومليارات الدولارات التي أنفقت ذهبت هباء منثورا.
من جانب آخر قد يتسبب قرار ترامب في تصلب مواقف الطالبانيين من تنفيذ ما تمّ الإتفاق عليه مؤخرا أثناء محادثات السلام في أبوظبي والتي انعقدت بفضل الجهود الخيرة للدبلوماسيتين السعودية والإماراتية.. هذا كي لا نقول أن القرار سيتسبب في تراجعهم عن كل التزاماتهم مثلما حدث مرارا وتكرارا في معركة الصراع على السلطة، وخاصة حينما يكونون في وضع ميداني قوي كما هو الحال اليوم. وهاهي الأنباء تفيد وقت كتابة هذا المقال، بأن حركة طالبان ألغت محادثات سلام مقررة مع مسؤولين أمريكيين.
وإنْ كان الشيء بالشيء يذكر، فإن علينا العودة إلى منتصف التسعينات حينما ظهرت حركة طالبان على السطح كقوة جديدة مدعومة من المخابرات الباكستانية بهدف وضع حد للصراعات العبثية بين فصائل المجاهدين الأفغان، وأيضا بهدف منع الهند من إستغلال الأوضاع في بلد لطالما شكلت هاجسا أمنيا للحكومات الباكستانية المتعاقبة التي لم تتردد يوما في القول أن لها مصلحة إستراتيجية في تقرير مصير أفغانستان السياسي. وهكذا رأينا حركة طالبان تنطلق من جنوب أفغانستان المتاخم لباكستان بإتجاه كابول، ولم يمض عام إلا وهي تقيم دولة ظلامية تحتضن حركات التطرف والإرهاب الاقليمية وتذيق شعبها صنوف الظلم والعبودية تحت ستار تطبيق أحكام الإسلام.
السؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يمنع تكرار مثل هذا السيناريو مجددا خصوصا إذا ما افترضنا مساعدة باكستان مجددا لهم للأسباب السابقة، معطوفة على سبب مستجد هو إضطراب علاقتها مع واشنطون، ناهيك عن رغبتها في قطع الطريق على طهران التي تتقرب من طالبان وتساعدها بالأسلحة في وقت تشكو فيه العلاقات الإيرانية ــ الباكستانية من خلل بسبب هجمات المسلحين البلوش المنطلقين من باكستان لضرب قوات الحرس الثوري الإيراني؟ وهناك أيضا العامل الهندي متمثلا في التعاون المضطرد القائم بين كابول ونيودلهي، والذي تنظر إليه إسلام آباد بإنزعاج.
أما السؤال الآخر فهو هل عالم اليوم بكل مستجداته وأزماته وظروفه الاقتصادية مستعد لتحمل تبعات عودة طالبان إلى الحكم وإعادة افغانستان إلى الوراء مجددا؟
الملاحظ هنا أن الطالبانيين استشعروا ذلك فبادروا على هامش مؤتمر السلام في ابوظبي للقول على لسان ناطقهم الرسمي “ذبيح الله مجاهد” أنهم اذا ما عادوا إلى السلطة فإن سياساتهم الداخلية والخارجية ستكون مختلفة عن تلك التي طبقت زمن الملا محمد عمر. لكن متى كانت لهذه الزمرة مصداقية كي يحمل الناس كلامهم على محمل الجدية؟
إن قرار ترامب وُصِف من قبل سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني في 27 ديسمبر الماضي بأنه فرصة ذهبية. وهي بالطبع فرصة ذهبية للايرانيين لإستغلال الوضع وتوطيد نفوذهم في أفغانستان وتحويلها إلى بؤرة لتنفيذ أجنداتهم الإرهابية في المنطقة وحول العالم. فقد زار شمخاني كابول مؤخرا وأعلن على الملأ أن محادثات جرت بين حكومته وحركة طالبان هدفها تجذير الدور الإيراني “الداعم للأمن والاستقرار في المنطقة (هكذا)، مضيفا أن طهران لا تعترف بنتائج مباحثات السلام في ابوظبي.
ومما لا يخفى على أحد أن ملالي طهران وملالي طالبان تربطهم علاقات قوية رغم إختلافهم مذهبيا. وظاهر هذه العلاقات هو البحث عن ترسيخ السلام في أفغانستان، لكن باطنها هو دعم طالبان عسكريا ضد حكومة كابول إنتقاما من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وليست حادثة مقتل زعيم طالبان الأسبق “الملا اختر منصور” في ضربة صاروخية أمريكية وهو عائد من طهران في مايو 2016 بعد إجتماعه مع أركان نظام ولاية الفقيه سوى دليل على وجود تلك الروابط المشبوهة.
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين