(الصورة: الملا مصطفى البرزاني، وزير دفاع جمهورية مهاباد الكردية في كردستان إيران، ١٩٤٦)
تتردد مقولة أن لا أصدقاء للأكراد إلا جبالهم وفي ذلك تبسيط لمساراتهم، لأن هناك مسؤوليات ذاتية وقرارات خاطئة في التعويل على الآخرين والتحول إلى أدوات إذا لم يكن هناك من ضمانات أو من استيعاب لتعقيدات اللعبة الإقليمية ومتغيراتها.
أتى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا متماشيا مع أسلوبه في العزف المنفرد عبر تغريدات تويتر واختزال إدارته بشخصه ما عجل برحيل وزير الدفاع جيمس ماتيس وأربك المستشارين والمؤسسات الأميركية قبل الحلفاء والأصدقاء. من الصعب أن تكون صديقا لواشنطن في زمن ترامب، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالأكراد وهم الذين كانوا ضحية لعنة الجغرافيا والأحلاف المقدسة ضدهم، وقبل كل ذلك ضحية خياراتهم غير المدروسة وانقساماتهم.
إزاء كل التحولات في المشرق والصراعات المحتدمة منذ 2011 في إطار “اللعبة الكبرى” انطلاقا من سوريا، تصور الأكراد أنه حان وقت تصحيح التاريخ وتقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى من خلال ممارسة حق تقرير المصير وفرض أنفسهم كلاعبين في رسم خارطة سوريا المستقبلية. وظن الأكراد أنهم الرقم الصعب نظرا لدورهم في الحرب ضد تنظيم داعش، لكن رهاناتهم أو حساباتهم لم تصمد أمام “الفوضى التدميرية” على أرض الواقع وتلقوا الضربة الأولى في الاستفتاء في إقليم كردستان العراقي وخسارة كركوك في سبتمبر 2017، وبعد ذلك في خسارة عفرين، جوهرة الشمال السوري. واليوم بعد قرار الانسحاب الأميركي لا تخشى “وحدات الحماية الكردية” (النواة الأساسية لقوات سوريا الديمقراطية) من خسارة الكثير من جغرافيا وجودها وسقوط هدفها بتحقيق سوريا فيدرالية تعددية، لكن هذا التخلي الأميركي والإهمال الروسي يقودان حكما إلى ضرب الحلم الكردي، وعلى الأرجح سيحصل انكفاء عسكري نحو شمال العراق مع كل المخاطر المترتبة على ذلك.
بيد أن التراجع أو الهزيمة في سوريا، وخسارة معركة في العراق، واحتواء الاحتجاج الكردي في إيران وكذلك الضغط السياسي والأمني على المكون الكردي في تركيا، لن يقوض فكرة تقرير المصير لأكبر شعب في العالم من دون دولة.
بين مصالح دولية متناقضة أو متقاطعة، وبين أصوليات قومية تبرز صورة الكردي المطارد من حقبة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر. لكن ذلك لا ينحصر في الأكراد فقط، بل يطول شعوبا بعينها أو مكونات أخرى في المشرق موئل الحضارات والديانات التوحيدية، وإذ بصراع الآلهة وصراعات النفوذ على أنواعها تحول العالم العربي إلى الرجل المريض لهذا القرن كما كانت الإمبراطورية العثمانية قبل قرن.
تتردد مقولة أن لا أصدقاء للأكراد إلا جبالهم وفِي ذلك تبسيط وتهميش لمساراتهم، لأن هناك مسؤوليات ذاتية وقرارات خاطئة في التعويل على الآخرين والتحول إلى أدوات إذا لم يكن هناك من ضمانات أو من استيعاب لتعقيدات اللعبة الإقليمية ومتغيراتها. وربما ما حدا بالجانب الكردي إلى عدم التنبه لرقصة تحالفاته (قيادة جبل قنديل لها صلات مستمرة مع إيران والنظام السوري). يمكن بالطبع لوم الآخرين بدلا من التعلم من الأخطاء والاستمرار في معركة غير محسوبة ضد أنقرة وقدراتها. وتبرز في هذا الحصاد مسؤولية خاصة أخلاقية وسياسية على عاتق واشنطن وحلفائها.
خلال “معركة عفرين” هلل الغرب للبيشمركة الأكراد الذين لعبوا دور الحلفاء الرئيسيين في المعركة ضد إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، وركزت وسائل الإعلام الأوروبية على المقاتلات الكرديات وعلى بطولات الأكراد وشجاعتهم وتضحياتهم في مواجهة الجهاديين من “سنجار” إلى “كوباني” (عين العرب) والرقة، ووصل الأمر بواشنطن والتحالف الدولي ضد الإرهاب إلى التعويل على وحدات الحماية الكردية لتكون نواة قوات سوريا الديمقراطية في السيطرة على المناطق الحساسة شمال وشرق الفرات في سوريا. لكن كما في منعطف عفرين وبعد حسم معركة “جيب هجين” ضد داعش، سرعان ما أتى قرار ترامب الذي قبل بتأجيله منذ ستة أشهر ومبررا إياه باكتمال الانتصار، وهذا ما لم يحصل بشكل كامل وحاسم، ويذكر ذلك تماما بإعلان سلفه جورج بوش الابن الانتصار في العراق في 10 مايو 2003 ولا يزال العراق حتى الآن في وضع غير مستقر. ويذكر هذا القرار بانسحابات لها تداعياتها وانعكاساتها مثل انسحاب آرييل شارون من غزة في 2005 وانسحاب إيهود باراك من لبنان في العام 2000.
قاضي محمد (1893-1947) زعيم كردي ورئيس جمهورية كردستان (جمهورية مهاباد)، ثاني من أعلنوا الدولة الكردية في الشرق الأوسط (بعد جمهورية أرارات): قاضي محمد (قاضي ولات الكردي). يرى الباحثون المعاصرون إن قاضي محمد كان واحدا من القيادات الكردية الأكثر تقدما في التاريخ. (ويكيبديا)
يتساءل أكثر من مراقب عن النتيجة الفعلية للمعركة ضد تنظيم داعش منذ 2014، وهي تسليم العراق وسوريا بشكل أو بآخر للنفوذ الإيراني، مع جوائز ترضية للاعب التركي تحت إشراف القوة الدولية الجديدة في الشرق الأوسط أي روسيا فلاديمير بوتين.
من المبكر القيام بجرد حول الرابحين والخاسرين، ربما شاء ترامب رمي كرة النار ليتلقفها غيره، وما يُحكى عن صفقة مع تركيا غير دقيق لأن هناك ميزان قوى وتنافسا أميركيا – روسيا حول تركيا يستفيد منه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لفرض أجندته. ويتوجب عدم التقليل من أهمية العامل الداخلي الأميركي وشبح “روسيا غيت” المسلط على سيد البيت الأبيض، وربما يكون قراره حيال سوريا وسحب الكثير من القوات من أفغانستان، جزءا من مواجهته مع الكونغرس الذي يعانده من حرب اليمن إلى جدار المكسيك، وفِي خلفية القرارات تنفيذ الوعود الانتخابية قبل حملة جديدة تقترب وتطبيق لاستراتيجية بدأها الرئيس السابق باراك أوباما بالتخلي عن دور “شرطي الشرق الأوسط” والتركيز على آسيا والمحيط الهادئ إلى جانب تحريك خيوط اللعبة والتحكم بها في الشرق الأوسط الكبير عبر أسلحة العقوبات وحروب الوكالة وغيرها.
بالطبع تفقد الولايات المتحدة رافعة كبيرة لتقرير مصير التسوية في سوريا ويمكن لتركيا أن تكسب بعض المناطق في جوارها لأن تغلغلها في شرق الفرات وحتى شمال العراق سيرتبط بالسقفين الروسي والإيراني والمواقف الأوروبية والرقابة الأميركية.
في هذا الخضم المتماوج يخشى اللاعب الكردي الغرق بسبب إعصار ترامب شرق الفرات، ويطوي ذلك صفحة من التاريخ الكردي مع تراجع تياري مسعود البارزاني وعبدالله أوجلان، ويكون هناك رهان على جيل جديد يدير اللعبة بشكل أفضل من أمثال صلاح ديمرتاش القابع في السجن التركي وهو المعارض التركي الأول، وكذلك مع شباب كردي أخذ يفهم العالم بشكل أفضل.