طرحت إحدى نشرات الأخبار في المؤسسة اللبنانية للإرسال “ال بي سي آي” في الأسبوع الماضي قضية إعلان مبوب يطلب موظفين إما مسيحيين أو شيعة. وأجاب صاحب الشركة المعلنة بأنه على استعداد لتلبية رغبات أي زبون مهما كان الطلب مخالفاً لحقوق الانسان القاضية بعدم التمييز بين بني آدم وآخر انطلاقاً من دينه او لونه او وضعه الاجتماعي. وحين ابدى المذيع استغرابه الجواب مشيراً الى عنصرية الإعلان وطائفيته، قال صاحب الشركة ما يلي: “انا قومي سوري ولست مثل جبران تويني…”.
مرت العبارة مرور الكرام. ومقابل ذهول المذيع المحاور وتبلكمه وانفلات حبل الحوار من يده، أمعن محاوره في تطرفه ليؤكد انه لا يوظف في شركته الا من كان من المسيحيين وحتى من عائلته رافضاً أي آخر لأن البلد طائفي.
لم تعرض صورة هذا الشخص، كان صوته فقط حاضراً للتبجح بجريمة لفظية تبرر القتل وتعلن انه تحصيل حاصل انطلاقاً من الدوافع الطائفية، وان الامر لم يعد ظاهرة غريبة في مجتمعنا اللبناني المريض، لعله أصبح القياس، والا كيف نفسر تفهم الزعيم السياسي وليد جنبلاط، بكل الحيثية التي يستند اليها، تمني الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله “الذي يحب جنبلاط”، بأن لا يشمل إيران بانتقاداته وتغريداته، لأن فئة كبيرة من اللبنانيين تعتبر ان التعرض لهذه الدولة هو تعرض لطائفة هؤلاء.
تالياً الشرعنة الطائفية للقتل لم تعد ظاهرة، فقد صرح شيخ معمم بأن طرفاً اسلامياً مسلحاً ربما عمد في وقت سابق الى القتل من دون مسوغ شرعي، لكنه اليوم تغير. بمعنى آخر هو يقتل حالياً بمسوغ شرعي.
وخلال حوار مع أستاذ في القانون الدولي عن انتهاك #حزب_الله كما العدو الإسرائيلي القرار 1701، انتفض الأستاذ واعتبر ان صاحب هذا الطرح إسرائيلي عميل، وهو يعلم ان اتهام احدهم بالعمالة يعني إهدار دمه.
والتعليقات على صور رئيس الحكومة سعد الحريري مع ابنه حسام المتخرج بعد حصوله على شهادة جامعية بفعل الدرس تمحورت حول تعييره بابن نصرالله الحاصل على “الشهادة” بفعل المقاومة.
والحبل على جرار الأمثلة والشواهد لا ينتهي، ولا سبيل لوضع حد له ما دامت حجة التعثر في تركيبة الحكومة لا تحمل الا عناوين طائفية ومذهبية وآخرها عقدة “سنة 8 آذار”.
وفي حين يرتبط هذا التعثر بتحذيرات من الوضع الاقتصادي ووصوله الى شفير الهاوية، لا يلتفت أي مسؤول الى ما يهدد فعلاً بنسف البلد وكل صيغة أرسيت حتى تاريخه لإدارته بالتي هي أحسن وفق الحد الأدنى من الممكن.
وما يهدد يكمن في هذه الدائرة المحكمة الإغلاق والملغمة بالطوائف وحقوقها التي تطغى على أي محاولة للإصلاح الحقيقي ومحاربة الفساد وبناء المؤسسات وتدعيمها بالكفاءات. فما يحصل وبقبول مشتبه فيه من كل المسؤولين، مهما كانت عناوينهم، وينسحب منهم الى جماعاتهم، فهو إن دل على شيء فإنما يدل على علة في التركيبة الإنسانية للبنانيين.
والمؤسف أن هذه العلة عابرة للطوائف والمذاهب والمشارب السياسية والاجتماعية. ومن لا يشتري فليتفرج على انهيار منظومة القبول بالآخر، ليس من خلال تقوقع شرائح واسعة من الشعب اللبناني، كلٍ في الغيتو المذهبي الخاص به، ولكن من خلال الغاء هذا الآخر بكل الوسائل الممكنة، والقتل من ضمنها، ما دام الحقد على الآخر سببه ان “البلد هكذا ونحن وان كنا غير طائفيين لكننا مرغمون على حماية طوائفنا”.
وفي حين يساق كل من ينتقد بعض الطبقة السياسية الى العدالة الاستنسابية مخفوراً، وفي حين يرى نائب عن الامة ان من يغني “طار البلد” يستحق ان “يطير رأسه” ولا يعتذر، لا تتحرك العدالة لملاحقة المسؤولين ووسائل الاعلام التي تروج لهم وتطبل وتزمر في مآتمهم، ومن بعدهم عامة الشعب إن هم امعنوا في جريمة “الاثارة الطائفية” التي يسعى من خلالها الجناة اما الى صيانة مواقعهم او الى إشباع البغضاء والاستفزاز والعنف.
ولا تشعر هذه العدالة بخطر “الجريمة السياسية” التي ترتكب ضد وجود الدولة وأمنها او ضد الدستور او الحقوق المدنية والسياسية لأي فريق او شخص، وعلى مدار الساعة من دون حاجة الى تبريرها.
وفقدان الشعور بالخطر هو التجاوز الفعلي للخطوط الحمر لقيام دولة، ولأن الطبقة السياسية تشبه صاحب الشركة المعلنة المستعد لتلبية رغبات أي زبون مهما كان الطلب مخالفاً لحقوق الانسان، يصبح مفقوداً من يلتفت الى العبارات القاتلة ولا يحاسب على الجرائم العابرة للحياة السياسية اللبنانية من دون عقاب او حتى اعلان الخصومة والانكفاء عن التعاون مع مرتكبي هذه الجرائم.
sanaa.aljack@gmail.com