لا يختلف اثنان على اهمية الحدث الاكاديمي المتمثل ببدء التدريس في كليات العلوم والهندسة والفنون في المون ميشال بجانب طرابلس. إلاّ أنّ الغصة ما زالت تخنقنا لأنّ قضيتنا بدأت مند اكثر من عشرين سنة، وهي كانت وما زالت تهدف لبناء مدينة جامعية شمالية متكاملة مع مبان لسكن الطلاب ومراكز للأبحاث كي تترابط الأدوار الأكاديمية والثقافية مع الأدوار الإقتصادية والإجتماعية، وكي تشكل المدينة مساحة تلاق وحوار للشباب القادم من مختلف المناطق الشمالية كما من غيرها.
ومع أنّ الحلم الشمالي الأكاديمي بدأ منذ سبعينيات القرن الماضي(اطلاق “دار البلاد” نداء حول الموضوع، وخصوصا انشاء كلية الهندسة في طرابلس والتي شكلت عنوانا كبيرا لحراكات طلابية وشعبية واسعة ضمن الحراك من اجل إنشاء الكليات التطبيقية في الجامعة اللبنانية) وامتداد الحلم الشمالي لسنوات بينها بعض الدعوات في ثمانينيات القرن الماضي لإقامة المدينة الجامعية في اراضي المعرض. إلاّ أنّ بدء تكون قضية المدينة الجامعية في “المون ميشال” تحديدا، حصل في النصف الثاني من التسعينيات حين قارب الأعضاء الشماليون في الهيئة التنفيذية لرابطة الاساتذة في الجامعة اللبنانة في الجامعة اللبنانية الرئيس الشهيد رفيق الحريري بهذا الموضوع بعد ان واكبوه في استكمال المدينة الجامعية في الحدث والتي كان قد بدأها الراحل د. حسن مشرفية حين أقنع الرئيس شارل الحلو بشراء الأرض والبدء ببناء كلية العلوم والتي اصبحت عند انتهائها الكلية الأحدث والأجمل آنذاك في المنطقة.
ومع أنّ الأكاديميين الأوائل توجسوا من التفريع السياسي والأمني الذي صدر سنة ٧٧ والذي هز وحدة الجامعة وجعلها فريسة لقوى الأمر الواقع وميليشياتها، إلاّ أنّ الأساتذة وأهل الفروع الشمالية والشماليين عموما، لم يكونوا ليسكتوا طويلا عن واقع المباني العشوائية والتي لا تشبه الجامعات في شيء. وقد قاوم عميد العلوم محسن جابر بنجاح، ومعه أهل العلوم، المحاولة الفرنسية لمبادلة مباني العلوم في القبة بموقع المون ميشال الذي يملكه الجيش اللبناني لبناء الليسة الفرنسية، مصرا مع العلوميين على بناء الفروع الشمالية في “المون ميشال”. والطليعية العلومية ورثناها بالطبع من باني كلية العلوم ورائدها الناشط والناسك الأكاديمي د. حسن مشرفية.
وللصراحة فقد لبى الرئيس الشهيد نداءنا فورا وكلف مدير مكتبه، د. حسني المجذوب، بالمتابعة. وتشكلت لجنة متابعة شمالية مركزها نقابة المهندسين من النقيب عطا جبور، وكان عميدا لكلية الهندسة ايضا، وعميد كلية العلوم د.محسن جابر والاساتذة جان جبور ونزيه رعد والراحلين علي مسقاوي ومصباح الصمد وربما آخرين. وكان لي شرف التنسيق لهذه اللجنة التي عملت على ابراز أهمية الموضوع وضرورة إنجاز مباني جامعية موحدة ولائقة للفروع الشمالية. وزار بعض اعضائها مسؤولين كوزير الدفاع محسن دلول وفعاليات شمالية، سياسية واكاديمية ونقابية ومدنية وثقافية حيث التف الجميع حول الهدف الأكاديمي الموحد، وبدأ تداوله “الأولي” في مجلس الانماء والإعمار، لأن الأرض كانت مملوكة من وزارة الدفاع وجزء منها مؤجر لوزارة النفط ومختلف عليه مع IPC التي شغلت المكان لفترة طويلة، ما دفعنا للتخطيط لزيارة قائد الجيش انذاك المرشح الرئاسي العماد اميل لحود.
أدّى انتخاب الرئيس لحود وتشكيل حكومة الحص، ضمن اجواء تصاعد النظام الامني السوري اللبناني والمواجهات مع الحريري الى تجميد واقعي لأعمال اللجنة.
بعد انتخابات الالفين وعودة حكومة الحريري، تشكلت لجنة في كلية العلوم في القبة التي كانت مبانيها متهالكة ومعرض بعضها للانهيار. اجتمعت اللجنة مرارا مع وزير الاشغال نجيب ميقاتي الذي زار الكلية في ٩ شباط ٢٠٠١ واصيب مع الإعلاميين (الذين نقلوا إلى المحطات والصحف واقع المباني الخطر والمرعب) بالصدمة والذهول ووعد بنقل ما شاهده للرئيس الحريري وللفرنسيين اصحاب المكان، ذلك اننا طالبنا ليس فقط بالترميم بل بالبناء ايضا.
تحولت الكلية الى محج للفعاليات النيابية والسياسية والنقابية والثقافية المستهجنة والمتضامنة،
ووافق الفرنسيون(مالكو العقار والأبنية) على تغييرات في المكان ليليق بكلية علوم. كما وعد الحريري بتأمين المال الضروري للترميم وإعادة البناء. إلاّ أنّ أهل الفروع والمجتمع المدني الشمالي تمنوا الإفادة من الزخم العلومي لإعادة دفع المشروع الاصلي الذي جمدناه بعد انتخاب الرئيس لحود. فلبينا دعوة للمشاركة في ورشة لمؤسسة الصفدي حول الجامعة، اعدنا خلالها تظهير قضية المدينة الجامعية في “المون ميشال” والتي كانت في اساس حركتنا في التسعينيات، وتأسست لجنة جديدة واسعة التمثيل الأكاديمي والمهمني والنقابي والثقافي وأسسنا لها مكتبا تنفيذيا ثابتا من الراحلين رشيد جمالي ومصباح الصمد ومن طلال خوجة ومصطفى حلوة وعلي العلي ليشكل دينامو دائم للجنة.
نجحت اللجنة في صياغة مشروع اولي ومذكرة مطلبية في اعقاب مؤتمر نوعي وواسع عقد في نقابة المحامين في ايار ٢٠٠١، وحضره معظم النواب والوزراء الشماليين ووزراء غير شماليين، كما رئيس الجامعة اللبنانية وعمداء ومدراء ومسؤولين فيها وحشد كبير من الفعاليات النقابية والسياسية والثقافية والأكاديمية والمدنية، والحقوقية وشكل تظاهرة نوعية قل نظيره(علما أنه عقد في نفس الوقت الذي أدار فيه السوريون في معرض طرابلس مهرجانا لجماعة كمال شاتيلا وخطب فيه الرئيس الراحل عمر كرامي وأتى في سياق مواجهة النظام الأمني للشهيد رفيق الحريري بعد انتصاره في الإنتخابات، وما أشبه اليوم بالأمس!).
زارت اللجنة الموسعة أكثر من مرة رئيسي الجمهورية والحكومة وقائد الجيش ومسؤولين آخرين عارضة مذكرة مطلبية أولا ومشروعها الاولي الذي صاغه مهندسون وأساتذة جامعيون بارزون والذي نال موافقة الجميع لاحقا. وقد ترافق ذلك مع حراكات أكاديمية ومدنية واسعة طالت معظم مكونات ومواقع الحياة الشمالية، وطاولت مواقع ومسؤولين في العاصمة، ما جعل رئيس الجامعة آنذاك دكتور قبيسي يعتبر لجنة المتابعة للبناء الجامعي مثالا يحتذى.
تشجعت اللجنة بتأييد الرئيسين لحود والحريري لمشروعها، ولدعم الرئيس الحريري وموافقة الرئيس لحودلإضافة كليات جديدة للفروع الشمالية(تمنع حينها وزير التربية عبد الرحيم مراد ورئيس الجامعة د.قبيسي عن إصدار قراراتها).
وشكل وضع حجر الاساس في ١٤-١١-٢٠٠٢ تظاهرة أكاديمية وسياسية كبيرة، ولكن رافقته ثغرة غياب الحريري، اذ انه عقد وللأسف ، وليس من باب الصدفة، في يوم مؤتمر “باربس ٢” وبدون موافقة اللجنة والتي كانت تعمل لحضور الرئيسين والتي سرعان ما ذهبت للحريري طالبة دعمه ورعايته وتفهمه. فقال الشهيد حينها جملته الشهيرة انه “يحب ان يترافق عادة حجر الاساس مع هدير الجرافات”.
وفي مؤتمر انماء طرابلس في القصر الحكومي الذي انعقد في نيسان ٢٠٠٣، رفع الحريري، محاطا بوزراء ونواب وفعاليات طرابلس، ورقة انتقال ملكية المون ميشال من وزارة الدفاع الى الجامعة اللبنانية، لكن بدء الدراسات من شركة لاسيكو انتظرت انهاء معركة الاستملاكات الشهيرة التي وسعت المساحة لحوالي١٦٧ الف م م.
تقرر البدء بكلية العلوم التي اطلقت الزخم بعد انتهاء الدراسات لعشر كليات، وذلك بعد زيارة للكلية وللموقع من قبل لجنة مشتركة من الصندوق السعودي ومجلس الانماء والإعمار وشركة لاسيكو التي انجزت الدراسات وذلك في اواخر ٢٠٠٤ ابان حكومة عمر كرامي(صادفت أن الزيارة حصلت في يوم تظاهرة المليون الفاشلة والتي أدارها أركان النظام الأمني السوري اللبناني بوجه الحريري وغيره من السياديين) .وقبل ان ينعم الشماليون ببدء الاعمال الإنشائية وقع زلزال الإغتيال، وتداعياته الكارثية.
أعادت اللجنة حركتها بعد تشكيل حكومة السنيورة الأولى واثمرت عن تلزيم حفر كلية العلوم في ٢٠٠٧ سرعان ما توقف بسبب عدم كفاية المبلغ الموجود عند مجلس الإنماء والإعمار.
لزمت الهندسة والفنون بقرض من بنك التنمية الإسلامي الذي رفض استكمال العلوم لاسباب مرتبطة بنظم البنك الذي يقرض كامل الانشاء. وكان من المفترض ان تنجز الكليتين في آخر ٢٠١٢، وهو ما لم يتم لتعثر الشركة التركية الملزمة ماليا واداريا.
وبعد اخذ ورد لسنوات جرى الإتفاق مع مجلس الانماء والإعمارعلى شركة الباطن اللبنانية كsub contractor لمتابعة الابنية .
كان من المفترض ان تأتي اموال استكمال مبلغ مناقصة العلوم المحفورة أولا من أموال باريس ٣، الا أن التعثر السياسي الطويل دفع أساتذتها لتشكيل لجنة عملت على تأمين باقي الاموال اللازمة عبر قانون برنامج حول المباني الجامعية( اشار لنا إليه الصديق د.بلال علايلي، أقره البرلمان إبان استكمال مباني الحدث في االتسعينيات) في عهد حكومة ميقاتي الثانية ومع وزير المالية محمد الصفدي، ما اطلق لاحقا، بعد معركة مركبة وطويلة (موازنة/ احتياط)سراح مناقصة العلوم التي لزمت لشركة المعلوف اللبنانية مع محطة مياه وباركنج، ما جعل التسليم الثلاثي(علوم، هندسة وفنون) ممكنا في صيف ٢٠١٨.
في سنة ٢٠١٦ وافق المجلس النيابي في جلسة تشريع الضرورة على قرض بنك التنمية الاسلامي لانشاء كلية الصحة وبعض انشاءات الحرم كالاغورا التي تربط الكليات ببعضها البعض وتجعلها وحدة مترابطة.
وفي ٢٨-٢-٢٠١٧ فضت المناقصة، ولم تلزم حتى الآن لبعض الاعتبارات، علما ان محاولات غير ناجحة للأسف جرت لفك الحفر عن باقي المناقصة لتجنب تداعياته البيئية لاحقا على العلوم والهندسة حين بدء الدراسة، وهو ما ستواجهه الجامعة قريبا عند التلزيم، إذ أن مبنى الصحة يقع بين مبنيي العلوم والهندسة.
وفي النهاية ورغم الزمن الطويل منذ الإنطلاق يسجل للمتابعين وللشماليين عموما الصبر والصلابة وطول النفس، ولولا هذه الصفات لما بدأ التدريس في المباني الجميلة واللائقة في المون وميشال، ما يجعل هذه الصفات ضرورية لاستنفار اكاديمي وشمالي من اجل متابعة تتفيذ الحلم، وما يتطلبه من بنى ملازمة كالطريق الدائري الشرقي وتأهيل محول البحصاص ومنطقتها وغيرها من مواضيع ومرافق ملازمة للحرم الجامعي في المون ميشال.
talalkhawaja8@gmail.com
- طرابلس- لبنان