في اجتماع للجبهة الوطنية، في مدينة ليل، خاطب ستيف بانون، كبير مستشاري ترامب سابقاً، ممثلي اليمين الفرنسي المُتطرّف قائلاً: “يقولون عنكم عنصريين، وكارهي أجانب، ضعوا ذلك وساماً على صدوركم“.
أريدُ، في الواقع، الكتابة عن قانون القومية، في إسرائيل، ولكنني لا أجد مدخلاً أفضل من هذا. فما كان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في أوروبا والولايات المتحدة، على الهامش، يزحف الآن بخطى حثيثة ليحتل المتن، هناك وفي بلدان مختلفة.
المقصود أيديولوجيا شعبوية جديدة تجمع ما بين التطرّف القومي والعنصرية، تعادي العولمة، وحقوق الإنسان، والتعددية السياسية والثقافية. وفي حال نجاحها فإن مفاهيم من نوع الاستعمار، والهيمنة، والعدوان، تبدو مرشحة لإعادة النظر: مَنْ قال إن حق تقرير المصير حقيقة لا تقبل الطعن؟ ومَنْ قال إن استعمار الآخرين لا يجوز؟ ومَنْ قال إن السلام أعلى قيمة من الحرب؟ ومَنْ قال إن القوّة لا تعلو على الحق؟
والواقع أن مصير المجازفة الإسرائيلية بقانون كهذا وثيق الصلة بمدى تقدّم أو تراجع الشعبويات الجديدة، في الغرب عموماً، وفي كل مكان آخر. وبهذا المعنى تفعل إسرائيل في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ما سبق وفعلته في خمسينيات القرن الماضي. ففي ذلك الوقت كانت الديمقراطيات الغربية في صعود، فاختارت أن تراهن عليها، وأن تحتمي بها. واليوم، الشعبوية في صعود، وهي تراهن عليها، وتسعى للاحتماء بها.
ولنتذكّر ما كتبه مايكل وولف في “النار والغضب“ عن لقاء جمع بانون بعدد من داعمي حملة ترامب الانتخابية، بعد فوز الأخير، وقبل إقامته في البيت الأبيض. قال لهم: “الخطوة رقم واحد نقل السفارة إلى القدس“. بانون، كما الكثير من أنصار اليمين الأميركي والأوروبي، لا يحبون اليهود، ولكن زواج المصلحة، الذي يجمعهم بإسرائيل، يخدم حملاتهم الانتخابية، ومصالحهم السياسية، في بلدانهم وخارجها.
في الأيام الأولى للدولة كان بين الإسرائيليين مَنْ يؤمن بالاشتراكية، ويدين بالولاء للاتحاد السوفياتي، ولكن مصلحتهم كانت في مكان آخر. ولم يكن بين الساسة الأوروبيين والأميركيين الكثير من مؤيدي الدولة اليهودية، والمؤمنين بقدرتها على البقاء، ولكن التداعيات السياسية والأخلاقية لكارثة الهولوكوست، معطوفة على حسابات الحرب الباردة، وإعادة التموضع في الشرق الأوسط، رجّحت كفة الانحياز إلى إسرائيل.
يُقال هذا وفي الذهن أن البعض قد يتطوّع للتذكير “بمؤامرات“ الغرب، ومشاريع الدولة اليهودية منذ نابليون. ومع ضرورة التأكيد على نفي نظرية المؤامرة، لا ينبغي إسقاط عوامل ثقافية، وتاريخية، دون وضعها في مرتبة أعلى من مرتبة الحسابات الجيوـ سياسية، في الإقليم والعالم، على مدار الأعوام الثلاثة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتهت بقيام إسرائيل.
والواقع، أيضاً وأيضاً، أن هوية الدولة الإسرائيلية، كما جاءت في إعلان قيامها، قد تأثرت إلى حد بعيد بتلك الحسابات. وبهذا المعنى فإن تعديل البيان المذكور بقانون القومية الجديد، يتجلى كترجمة لحسابات جيوـ سياسية جديدة في الإقليم والعالم. وإذا كان ثمة من ضرورة لاختزال القانون الجديد في عبارة واحدة، يمكن القول: إنه ينزع الصفة القومية عن الفلسطينيين، ويضع الأساس القانوني، والتشريعي، لنظام الأبارتهايد في فلسطين بحدودها الانتدابية.
ولماذا كل هذا؟ لأن القانون الجديد يمثل رداً من جانب معسكر اليمين القومي ـ الديني، وخطوة استباقية، لدرء مخاطر الدولة ثنائية القومية، وخلل الميزان الديمغرافي، وفقدان الهوية اليهودية للدولة. وقد كانت كلها حتى الآن بمثابة المدفعية الثقيلة في ترسانة العماليين واليساريين، الذين برروا بها ميلهم، بصرف النظر عن جديتهم، إلى إنهاء الاحتلال، وحل الدولتين، ولم يندر بين هؤلاء وجود من تكلّم عن ضرورة وضع دستور يؤسس لديمقراطية ليبرالية كاملة على الطراز الغربي. وبهذا المعنى، لا يكون اليمين القومي ـ الديني قد قدّم جوابه وحسب، بل وأضفى عليه صفة قانونية، وتشريعية، أيضاً.
وطالما أن إسرائيل بلا دستور يحدد حدودها وسيادتها كدولة، وولايتها السياسية على إقليم واضح المعالم. وطالما أن الضفة الغربية، وغزة (بدرجة أقل) لا تُعامل في لغة السياسة الإسرائيلية بوصفها منطقة محتلة، بل محل نزاع، فإن القانون الجديد، الذي يمس بحقوق الفلسطينيين بدرجة أوضح داخل “الخط الأخضر“، يسري في حقيقة الأمر على كل الفلسطينيين في فلسطين الانتدابية.
الشيطان، كما يُقال، في التفاصيل، أي في الملاحق التوضيحية، والسوابق القانونية، والقياس، والتفسير، وحتى في اجتهاد الأفراد والمؤسسات. فمن يملك، مثلاً، تعريفاً جامعاً ومانعاً لعبارات من نوع: أن الشعب اليهودي صاحب الحق القومي الحصري، أو أن الدولة تشجّع الاستيطان اليهودي؟
ويبقى التفكير في أمرين: نجح رهان الإسرائيليين على الالتحاق بالديمقراطيات الغربية، والاحتماء بها، بعد قيام الدولة، فهل في رهان معسكر اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل على الشعبويات الأميركية والأوروبية الصاعدة ضمانات كافية للنجاح؟ مع ملاحظة أن العنصريات والقوميات الصاعدة ذات ميراث مُثقل بالعداء للسامية، وأن النظام العالمي، الذي تسعى إلى تقويضه، وإعادة إنشائه على أنقاض ما تحقق بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت إسرائيل نفسها من ثماره، لن يحقق سلاماً، ولن يضمن سلامة أحد.
أما الأمر الثاني فيتجلى في حقيقة أن ثمة واقعاً جديداً يتخلّق في فلسطين الانتدابية، وينفتح فيه أفق يجد فيه الفلسطينيون أنفسهم، في بلادهم، كتلة واحدة، وقد أعادت توحيدهم في المصير إكراهات خارجية. فمنذ النكبة وجدوا أنفسهم في مسارات ومصائر مختلفة. وهذا أصبح في حكم الماضي. يصعب التنبؤ بالتجليات السياسية والأيديولوجية المحتملة لكل هذا، ولكن لا يصعب القول إن أفقاً جديداً ينفتح الآن.
khaderhas1@hotmail.com