ترجمة “شفاف”
يبدو أن الحرب الأهلية في السودان، والتي اندلعت قبل أسابيع، لا أمل في إنهائها على المدى القصير. في غضون ذلك، وبالإضافة إلى الصراع بين الرجلين القويين في السودان، عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، ومحمد حمدان دقلو والملقب بـ “حميدتي” (أطلق هذا الاسم بسبب انتماء هذا الشخص إلى قبيلة “المحاميد” في جنوب السودان)، قائد قوات “الدعم السريع”، فإن الصراع السوداني الراهن سيتجاوز شيئا فشيئا المواجهة الداخلية الراهنة وسيتحول إلى مواجهة إقليمية ودولية.
في البداية، حاولت الولايات المتحدة اتخاذ موقف محايد تجاه الأحداث، ودعت كلا الفصيلين المتحاربين إلى وقف فوري لإطلاق النار وإيجاد طرق للتفاهم. غير أنه بات واضحا لواشنطن الآن أن الروس، وخاصة “مجموعة فاغنر” (التي تُعتبر أمّ جميع الميليشيات في المنطقة)، لعبت دورا مهما في تسليح “قوات الدعم السريع” وفي التخطيط للانقلاب على الجيش السوداني. لذلك، يبدو أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وبعد أن أمر بإغلاق السفارة الأمريكية ونقل الدبلوماسيين من الخرطوم، تلقى سياسة جديدة بشأن السودان من الرئيس الأمريكي جو بايدن. وأصدر البيت الأبيض، السبت، بيانا أعلن فيه أن الرئيس الأمريكي أكد أن “دعم الولايات المتحدة للسودان لا حدود له“. وقد فُسِّر البيان بأن أمريكا قررت الوقوف إلى جانب البرهان، بعدما تأكدت من تدخل الروس في الصراع، وأن الحرب في أوكرانيا قد انتقلت عمليا من القارة الأوروبية إلى القارة الأفريقية.
في ديسمبر من العام الماضي ، دعت إدارة بايدن 49 دولة من إجمالي 54 دولة أفريقية إلى واشنطن للمشاركة في قمة أمريكية أفريقية. وتعهدت الولايات المتحدة في هذه القمة التي حملت عنوان “تطوير الصداقة والشراكة” بتخصيص 55 مليار دولار للاستثمار في الدول الأفريقية. كانت السياسة التي تبنتها إدارة بايدن تهدف لمواجهة النفوذ الصيني والروسي في القارة السوداء. ولكن مع التدخل العسكري الروسي في السودان، لم تعد المواءمة الاقتصادية كافية، وإنما بات الأمر يتطلب تحالفا عسكريا في القارة الأفريقية. وذلك، بطبيعة الحال، سيؤدي إلى استقطاب معظم الدول الإفريقية، إما إلى جانب أمريكا أو إلى جانب خصومها، وسيجرّ إلى استقطاب الشرق الأوسط. ففي حرب أوكرانيا، حاولت بعض دول الشرق الأوسط، مثل المملكة العربية السعودية، اتخاذ موقف محايد، لكن في الصراع السوداني لا يمكن لهذه الدول أن تكون محايدة بأي شكل من الأشكال.
وبناء على ذلك، سنرى قريبا أن الجمهورية الإسلامية في إيران، على غرار روسيا من جهة وبناءً على تاريخ علاقاتها مع محمد حمدان دقلو (حميدتي) من جهة أخرى، ستعمل بشكل علني أو خفي إلى جانب “قوات الدعم السريع” ضد الجيش السوداني، و هذا الأمر سيساهم في تأجيج الصراع بين دول المنطقة إلى أسوأ مما كان عليه هذا الصراع في الماضي.
• حميدتي والإخوة المهربون في الحرس الثوري
يعتبر حميدتي نفسه، في التسلسل الهرمي للجيش السوداني، لواءً، لكنه لم يدرس في أي جامعة ولم يذهب إلى كلية الضباط. كانت وظيفته الأساسية هي “تجارة الإبل” حيث كان يذهب مع أفراد قبيلته إلى حدود السودان ودول الجوار ليتاجر بالإبل. دارفور هي مسقط رأسه، وقد جعلته في قلب الأحداث في السودان، حيث جذبت لوقت طويل انتباه الحكومة السودانية ودول مهمة في العالم والمنظمات الدولية. في ذروة أزمة دارفور عام 2003، قُتل أكثر من 300 ألف شخص وشرّد أكثر من مليونين. كان لـ”حميدتي”، مع أفراد قبيلته، اليد العليا في عمليات القتل والتهجير هذه. وخلال تلك الفترة انضم إلى جماعة “الجنجويد” التي أصبحت أداة لإخضاع أهل دارفور لحكومة عمر حسن البشير. تتكون كلمة الجنجويد من مقطعين “جن” و”جويد” والذي يعني الحصان، ويتم تفسير الكلمة في أساطير الناس في تلك المناطق أن “جني يأتي على حصان، ويقوم بعمله، ثم يختفي دون أن يترك له أثرا».
كان الجنجويد منخرطين في أعمال قطع الطرق في المنطقة لمدة 180 عاما، لكن البشير حوّلهم في عام 2013 إلى أداة سياسية عسكرية لقمع وإخضاع أهل دارفور. بعد سنوات قليلة، خرج شاب من بين قوات الجنجويد أثار إعجاب البشير، ولم يكن هذا الشاب الذي كان يبلغ من العمر 27 عاما سوى محمد حمدان دقلو والمعروف باسم حميدتي، الذي صعد سلم الترقية خطوة خطوة حتى أصبح قائد ميليشيا “الدعم السريع”. يتمتع حميدتي بشخصية متقلبة ومتغيرة، لكنه حافظ على صفاته التجارية المعاملاتية. يمكن تفسير علاقته بقادة الحرس الثوري الإيراني في سياق هذه الصفة الشخصية. ومن المحتمل أنه عندما تم تعيينه مسئولا عن حراسة حدود السودان، قد وقع في حب الإخوة المهربين المنتمين للحرس الثوري الإيراني، حيث استطاع من خلال عمليات تهريب “الصمغ” والذهب تجميع ثروة كبيرة في فترة زمنية قصيرة. فالسودان هو أكبر منتج للصمغ الخام في العالم. يبلغ بيع طن من الصمغ الخام فيه حوالي 3000 دولار، بينما يصل سعر الطن في السوق العالمية إلى 17 ألف دولار. هنا بدأت خطة البحث عن الربح مع الأخوة المهربين من الحرس الثوري الإيراني وبانت الصداقة مع حميدتي قيّمة.
لكن لا ينبغي أن ننسى أن علاقة حميدتي بالأخوة المهربين من الحرس الثوري الإيراني شهدت الكثير من المد والجزر! توسعت تلك العلاقة عندما ابتعد السودان عن الدول العربية المهمة واقترب من الجمهورية الإسلامية في ظل نهج “الإخوان المسلمين” وملاحقة عمر حسن البشير من قبل الإنتربول. حتى أن الحرس الثوري الإيراني فكّر في إنشاء قاعدة عسكرية في السودان بالقرب من البحر الأحمر. لكن في فترات أخرى، ابتعد حميدتي عن الجمهورية الإسلامية، بل شارك ضد الحوثيين في حرب اليمن.
حاليا يقف حميدتي، بناء على مصالحه الراهنة وروحه التفاوضية، إلى جانب روسيا، ما يعني أنه سيكون مرة أخرى إلى جانب الإخوة المهربين في الحرس الثوري الإيراني. في فترات سابقة، اختار حميدتي أن تنتهي مواقفه المتقلبة لصالحه، لا سيما تقلب مواقفه على راعيه عمر حسن البشير، حيث أصبح في صفوف الثوار الذين ثاروا ضد البشير، بل تبوأ منصب نائب رئيس مجلس الحكم (وهو المجلس الذي تم تشكيله بعد الثورة على البشير، وكانت مهمته إدارة شؤون البلاد في الفترة الانتقالية، ويرأسه عبد الفتاح برهان، قائد الجيش).
لكن، هل يسمح الوقوف إلى جانب روسيا لـ”حميدتي” بالوصول لأهدافه هذه المرة؟ أو على الأقل، هل يفتح له الطريق للعودة إلى تقلبات الأحداث كما كان في الماضي؟
أشك في ذلك، فهذا الطريق الذي اختاره حميدتي، ليس له طريق عودة كما كان في الماضي.
*حسن هاشميان، حلل مختص بالشؤون الإيرانية