حسابات الصين وروسيا الاستراتيجية بعد عام من حرب أوكرانيا
تبرز الحرب في أوكرانيا كنقطة تحول تاريخية وجيوسياسية رئيسية، عشية إكمال أربعة عشر شهرا من عمرها. دروسها العسكرية والاستراتيجية عديدة وبنيوية بالنسبة إلى حروب اليوم والغد، بالإضافة إلى تداعياتها على النظام العالمي وتوازناته ومسار إعادة تشكيله.
انطلقت مع النزاع الذي بدأ في 24 فبراير/شباط 2022، حقبة جديدة من المجابهة العالمية التي لم تقتصر على الجانب العسكري فحسب بل شملت حرب الطاقة وحرب الامن الغذائي والحروب الرقمية والالكترونية.
هكذا يتبين بوضوح أن تداعيات حرب أوكرانيا وتطورات العلاقة الصينية – الروسية، تنعكس على بلورة معادلة دولية جديدة تبرز فيها الولايات المتحدة الأميركية والصين الشعبية بمثابة ركنين لقطبية ثنائية رابحة، وذلك مقابل بروز ضعف روسيا ضمن الثلاثي الدولي الأقوى استراتيجيا مع تسجيل تراجع كبير للاتحاد الاوروبي في خضم استمرار الارتباك الاستراتيجي عالميا.
المعادلات الدولية الجديدة
يقول الديبلوماسي الأميركي السابق ريتشارد هاس (رئيس مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن) في مقالة بعنوان “العقد الخطير… العالم يمر بمرحلة مفصلية في تاريخه” (مجلة “فورين أفيرز” – عدد سبتمبر-أكتوبر/أيلول-تشرين الأول ٢٠٢٢) إن “الهيمنة الأميركية في طريقها إلى الاضمحلال، ليس بسبب تدهورها، بل لتطور الدول والكيانات الأخرى اقتصادياً وعسكرياً وبروز عالم من سماته انتشار القوة على نطاق أوسع”.
وكان عالم الاجتماع الفرنسي ايمانويل تود قد تحدث منذ ٢٠٠١ – ٢٠٠٣ عن “تفكك النظام الأميركي وما بعد الإمبراطورية”، لكن التوقعات والتنبؤات ليست هي المقياس أياً كانت أهلية أو صدقية صاحبها، ويبقى الأهم هو التنبه الى الوقائع والمسارات.
اليوم، تجتمع الصين وروسيا على هدفَي “إنهاء الهيمنة الأميركية” و”بناء نظام دولي متعدد الأقطاب”، وتتخذان من حرب أوكرانيا المدخل إلى هذا التغيير عبر محاولة فصل أوروبا عن واشنطن، وعبر تأليب جنوب الكرة الأرضية على هذا التغيير (ما تطلق عليه الأدبيات الغربية عبارة “الجنوب الكلي” أو “الجنوب الشامل”).
في المقابل، تتخذ واشنطن من حرب أوكرانيا وسيلة لتوجيه رسالة إلى الصين ومحاولة كبح استمرار الصعود الصيني، ويتركز الجهدان الأوروبي والأميركي على منع التصاق الصين وروسيا في حلف استراتيجي كفيل بتقويض التوازنات القائمة.
في ظل هذين التجاذب والفوضى الاستراتيجية، ستشهد السنوات المقبلة مخاضا عسيرا في اتجاه تشكيل المشهد الدولي الجديد. حاليا، تسعى واشنطن للحفاظ على موقعها الريادي في القيادة العالمية والبقاء بمثابة “القوة الاستثنائية التي لا غنى عنها”، وسط قطبية ثنائية قيد التبلور، وذلك من خلال استخدام كل عناصر القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وعبر شبكة حلف شمال الاطلسي وشبكات الأحلاف، لاحتواء الصين وإبقاء الربط الاستراتيجي مع أوروبا.
معركة أيديولوجية
في المقابل، تحدد عقيدة الأمن القومي الروسي الجديدة هدف إنهاء النظام العالمي القائم على هيمنة الغرب، وتطرح توجها أساسيا للشراكة مع الصين والهند، وصلات وثيقة مع دول “البريكس” ومنظمة شنغهاي والدول الإسلامية وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
لكن الأنظار تتجه نحو الصين وطموحاتها. إذ أخذت بكين تمزج بين عناصر القوة الناعمة (أول مبادرة ديبلوماسية دولية عبر الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران) وعناصر القوة الفظة (المناورات العسكرية الاخيرة حول تايوان ومحاكاة حصارها) مع استعراض للقوة الاقتصادية والجيوسياسية.
ركزت الصين في السنوات الأخيرة على ضرورة مشاركتها في بناء نظام عالمي جديد عبر خطوات التحول الى قوة مؤثرة ومن خلال “مبادرة الحزام والطريق”، وكأن بكين تطرح التعددية العالمية ونموذجها لتقاسم التنمية مقابل النموذج الأميركي الذي طرحه جو بايدن عبر تعزيز حلف “الديموقراطية ضد الديكتاتورية”. وهكذا سيكون العالم في ازاء معركة أيديولوجية بين النموذجين.
وتعتقد الصين أن طرحها سيكون أكثر إقناعاً وجاذبية بالنسبة إلى العالم النامي. وفي السياق نفسه، تأتي تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في طريق عودته من الصين (9 ابريل/نيسان ٢٠٢٣) حول أولوية خلق “القطب الأوروبي الاستراتيجي المستقل” و”عدم التبعية الأوروبية لواشنطن” مع تجنب انقسام العالم إلى كتل متقابلة. والأرجح أن تتقاسم أكثرية دول أوروبا رأي ماكرون عن وجوب عدم أخذ موقف صدامي من الصين والتركيز على المصالح الأوروبية.
ومن المعادلات الدولية الجديدة، اكتساب القوى الإقليمية مزيدا من الاستقلالية وتغليب مصالحها في المقام الأول، ويُعتبر تموضع المملكة العربية السعودية من حرب أوكرانيا أو من حرب الطاقة أو تنويع العلاقات الدولية، مثلا واضحا على المتغيرات الدولية.
من جهة اخرى، سلطت رئاسة الهند الدورية لمجموعة العشرين هذا العام الأضواء على دور نيودلهي في هذه اللحظة الحرجة من العلاقات الدولية، وتظهر الصعوبات في دور الهند بالنسبة إلى الصراع في أوكرانيا، إذ إن التوازن بين ارتباطاتها مع روسيا ومع الولايات المتحدة الأميركية، تفرض عليها موقفاً دقيقاً ينطوي على رقص على الحبل المشدود بين واشنطن وموسكو.
اقرأ أيضا: المسافةُ السياسية بين الصين وروسيا؟
بالفعل كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي مصيباً في تقييمه أن “الحوكمة العالمية فشلت” وجاء ذلك في خطاب خلال افتتاح اجتماع لوزراء خارجية دول مجموعة العشرين في نيودلهي.
ومن خلال مراقبة أحوال العالم في السنوات الماضية، مع الأزمة المالية والتغير المناخي والجائحة والإرهاب والحروب، يتبين بوضوح أن مؤسسات النظام الدولي المتعددة الأطراف لم تفلح في مواجهة التحديات الأكثر إلحاحا في العالم. لكن البدائل لا تبدو جاهزة في ظل احتدام المجابهة العالمية وتداعيات التخبط الاستراتيجي.
الدروس العسكرية في حرب عالية الوتيرة
كانت روسيا تعتقد أن هجومها في أوكرانيا سيكون مجرد “حرب خاطفة”. لكن الصراع تعثر وتفاقم على مدار الأشهر السابقة، من دون معرفة الشكل الذي ستبدو عليه نهاية هذه الحرب الرهيبة.
للتذكير، انخفض الإنفاق العسكري في أوروبا انخفاضا كبيرا خلال العقود الثلاثة من “مكاسب السلام” التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991. مع ذلك، فإن ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، أخذ يعيد عقارب الساعة إلى الوراء. والأدهى أن أوروبا ممثلة بألمانيا وفرنسا لم تنجح في تطبيق اتفاقية ميِنسك مما خلق أرضا لجعل أوكرانيا بؤرة نزاع مستديم.
تشير المواجهة الدولية التي بدأت بالوكالة في أوكرانيا إلى عودة الحرب الشديدة الكثافة إلى أوروبا وحصيلتها من الخسائر البشرية والمادية الفادحة، بعدما اعتقدنا أن حروبا كهذه اصبحت وراءنا.
على المستوى الجيوسياسي، يعتبر هذا الصراع أيضا نقطة تحول في مفهوم الدفاع عند الاتحاد الأوروبي: الموقف الجديد لألمانيا؛ الالتزام العسكري للاتحاد الأوروبي في دعم أوكرانيا؛ ظهور الجبهة الشرقية لحلف “الناتو” بقيادة بولندا؛ انضمام فنلندا وقرب انضمام السويد إلى الناتو؛ والسعي للدفاع الجماعي ضمن الإطار الأطلسي أو ضمن قطب استراتيجي مستقل.
بالنسبة إلى الدروس العسكرية البحتة، تعتبر الحرب الدائرة حربا هجينة تجمع بين الحروب الكلاسيكية في القرنين التاسع عشر والعشرين والحرب الحديثة في القرن الحادي والعشرين (التهويل النووي الروسي واستخدام الفضاء الإلكتروني والحرب الإلكترونية وأول مسرح للحرب الفضائية).
ومن بين الدروس الرئيسة، نلاحظ أهمية العمق الاستراتيجي والكتلة البشرية في الهجوم والدفاعات. على الأرض، تدور الاشتباكات في جميع المجالات: البرية والجوية والبحرية والفضائية والسيبرانية، ولكن أيضا على أصعدة المعلومات والمجالات الكهرومغناطيسية.
تعلمنا الحرب في أوكرانيا أن الجيوش تستهلك كميات هائلة من السلاح والذخيرة في الحروب الشديدة الحدة. ومن الواضح اليوم أن غالبية القوى في زمن “العولمة السعيدة” لم تكن مستعدة لذلك.
من الناحية النظرية، غيرت الحرب في أوكرانيا المقاربات التقليدية عن الحروب المعاصرة، وشجعت الجيوش على التعلم من هذا الصراع لإدارة الحاضر والمستقبل بشكل أفضل. مما لا شك فيه أن معارك دونباس بين الروس والأوكرانيين غنية في دروسها لجهة تأقلم الاستراتيجيات وفهم أفضل للأطراف المتحاربين وتطور التهديدات.
بادئ ذي بدء، يعد تكييف أشكال الجيوش والنموذج الذي يجب اتباعه أمرا ضروريا لتسهيل التعاون مع الحلفاء في الدفاع عن الأراضي – المسرح لأي نزاع شديد الكثافة.
ويعلمنا الصراع الأوكراني أيضا أن احتلال الأراضي وهزيمة العدو يظلان هدفين لهما الأولوية. للقيام بذلك، يجب أن تكون الجيوش قادرة على الرد على جميع أنواع التهديدات التي قد تواجهها الدولة. بالإضافة إلى القتال الكلاسيكي، يجب أن يكون الجيش جاهزا في مجالات المعلومات والإنترنت والتأثير، التي أصبحت حاسمة في صراعات القرن الحادي والعشرين.
الحقيقة البارزة الأخرى لحرب الاستنزاف هذه، هي النقص الصارخ في الذخيرة والأسلحة، والحاجة إلى الانتقال من منطق التدفقات الآتية وتجديد المخزونات إلى التخطيط لمزيد من الطلبات للأسلحة وخطوط الإنتاج.
الدرس الآخر الذي يجب التفكير فيه بالنسبة إلى قوى النادي النووي، هو التحضير للرد على تصاعد الخطاب النووي في أوروبا، لأنه منذ نهاية فبراير/شباط 2022، هددت روسيا مرارا باستخدام الأسلحة النووية. وأمر الرئيس فلاديمير بوتين أخيرا بنقل أسلحة نووية إلى بيلاروسيا.
ويوجب هذا تقييم تطور هذا التهديد وخاصة فرضية انتشار نووي جديد في السنوات المقبلة في جميع أنحاء العالم (خاصة مع تطور التسلح الكوري الشمالي والبرنامج الإيراني).
ولا يزال استخلاص الدروس من حرب أوكرانيا مستمرا. وسيكون التركيز للكثير من الدول تطوير أدواتها السيادية والانخراط في الأحلاف العسكرية.
التصعيد الميداني وتداعيات استمرار الحرب
يتبين اذاً أن باب التفاوض حول الحرب الأوكرانية موصد حتى إشعار آخر، خاصة بعد زيارة الرئيس الصيني لروسيا وزيارة الرئيس الفرنسي للصين، والتسريب “المنظم” أو “المريب” للمعلومات السرية الأميركية حول تطورات حرب أوكرانيا. في هذه الأثناء تضغط روسيا لتسجيل مكاسب عسكرية تحضيراً لهجوم واسع، أو إحباط الهجوم الأوكراني المضاد، بينما يؤكد المعسكر الغربي دعم كييف مهما طال أمد النزاع، كي لا يظن الجانب الروسي أن في إمكانه كسب حرب الاستنزاف.
من الناحية الاستراتيجية، نشهد على ضوء حرب أوكرانيا انشطارا من نوع آخر بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها.
يدلل ذلك كله على مدى التخبط وعدم وجود فرز واضح بالرغم من تبلور قطبية ثنائية أميركية – صينية ومحورين أساسيين مشتبكين: الغرب تحت قيادة واشنطن من جهة ومحور روسيا والصين من جهة أخرى.
يتدخل في هذا النقاش المفكرون والمنظرون والخبراء. وحسب المؤرخ الفرنسي فرنسوا كولوسيمو “إن هذا الصراع يحدث في سياق عودة الإمبراطوريات، ليس في روسيا فحسب، ولكن في الصين والهند وإيران وتركيا أيضا. إن معركة أوكرانيا هي الأكثر أهمية لأنها قد تكون مقدمة لصراع كوني من شأنه أن يتجابه فيه الغرب والقوى الإمبريالية (الإمبراطورية) الجديدة”.
من جهته، أقر المفكر الروسي إلكسندر دوغين أن “العملية العسكرية في أوكرانيا كان من المفترض أن تكون خاطفةً لكن ذلك كان مستحيلا بسبب الاندماج العميق لأوكرانيا في الناتو والغرب”.
وشدد المفكر الروسي المقرب من بوتين على أن روسيا أصبحت أمام مفترق طرق ولا يمكنها أن تخسرَ الحرب.
هكذا يعيش العالم حالياً لحظة حرجة للغاية، وسيتوقف تحقيق هدف فلاديمير بوتين في الحرب على النظام العالمي الذي أسسه الغرب والمرادف للنظام الأحادي الأميركي وعلى موقف الصين التي سيكون خيارها مرتبطاً بمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية.
الأدهى أن المجابهة العالمية يمكن أن تنتقل إلى مسارح أخرى، وأن الصراع المرتسم بين الجبارين الأميركي والصيني سيكون بوصلة العلاقات الدولية في الحقبة المعاصرة.
Ukr