حين طرح الرئيس السابق الياس الهراوي اقتراحاً مماثلاً اعترضنا بمقالة ونصحنا بسحبه من التداول، ولن يكون مصير الحالي أفضل من مصير سابقه، فكلاهما يفضي إلى عكس ما يريد أصحابه، وكلاهما يعرقل قيام الدولة المدنية العلمانية بدل المساعدة على بنائها، والاثنان ينتميان إلى عائلة المشاريع التي تنطلق من الاعتقاد بأنّ الطائفية هي لبّ المشكلة في النظام اللبناني، فيما المشكلة تكمن في المحاصصة.
التشخيص الخاطئ يفضي إلى وصفة خاطئة من صنف تلك المتحدّرة من مشروع إلغاء الطائفية السياسية الذي طرحته «الحركة الوطنية» في برنامجها للإصلاح السياسي مع بداية الحرب الأهلية، فيما المشكلة تكمن لا في طائفية النظام السياسي بل في طائفية السياسيين، أي أنّ الحل يكمن لا بتغيير النظام بل بتغيير أهل النظام.
هذه الوصفات والاقتراحات، على تنوّع تسمياتها، سرعان ما تتحول إلى سبب للنزاع بدل أن تكون سبيلاً للمعالجة، إذ يجري تصويرها كأنّها موجّهة ضد امتيازات الطوائف. هذا ما حل بشعار العلمنة الذي بدا رداً مسيحياً على شعار إلغاء الطائفية السياسية الذي بدا، بدوره، كأنه مصوّب على امتيازات مسيحية، فضلاً عن إدخاله في متاهة النفوس والنصوص، وزيادة في الطين بلة يجري اختزال المشكلة، بين الحين والآخر، بالمطالبة بتشريع الزواج المدني.
الحل الصحيح للأزمة يقتضي أولاً الابتعاد عن المصطلحات التي، رغم كونها صحيحة، تثير النزاع. فالمصطادون بالماء العكر، سياسيون ورجال دين يوظفون مصطلحيّ الدولة العلمانية أو المدنية في غير مدلولهما وينفخون عبرهما في الغرائز الطائفية، ولذلك فمن الأفضل استبدالهما بشعار دولة القانون والمؤسسات؛ و يقتضي ثانياً البحث عما يحصّن سيادة الدولة.
من ناحية أخرى، إنّ طرح قانون الأحوال الشخصية، في هذا الظرف بالذات، لن يثير في وجهه زوبعة فحسب تؤدي إلى إطفائه في مهده، بل سيكون دوره حرف الأنظار عن نهج ميليشيوي يُمعن في الاعتداء على سيادة الدولة. فلا الامتناع عن سن قانون ولا الامتناع عن تنفيذ قانون هو الخطر، بل الخطر هو في تحويل الدستور من أساسه إلى وجهة نظر وانتهاكه جهاراً نهاراً وصبحاً ومساءً، على غرار ما يحصل بتعطيل دور المجلس النيابي وتعطيل انتخاب رئيس للجمورية، وعلى غرار ما حصل طيلة العهد المشؤوم.
قد تكون هذه ملاحظات في الشكل، أما الخطأ الأساس فيتمثل في أنّ هذه الاقتراحات لا تضع الإصبع على الجرح بل بالقرب منه. فالتشخيص الصحيح للمشكلة لا يتحدد بوجود قوانين متعددة للأحوال الشخصية، مهما تنوعت وتعددت وتمذهبت، بل بوجود مؤسسات تنازع الدولة على سيادتها في الشأنين الأمني والمالي، وعلى سلطاتها في الشأن القضائي.
الحلّ الصحيح يقضي لا بتوحيد القوانين بل باستعادة الدولة سيادتها على الأمن والقضاء والمال والسياسة الخارجية من مغتصبيها، أي من الميليشيات المسلحة وغير المسلحة ومن المؤسسات الدينية. مع الميليشيات القضية معقدة، أمّا المؤسسات الدينية فالحل معها يتطلب من الدولة أولاً أن يكون لها قانونها الخاص بالأحوال الشخصية مع الحفاظ على القوانين الخاصة بكل طائفة، ويتطلب ثانياً إلحاق المحاكم الدينية بالقضاء المدني مع إعطاء الحق لرجال الدين، أسوة بسواهم من المواطنين، الدخول إلى سلك القضاء استناداً إلى قانون الكفاءة وتكافؤ الفرص، ويتطلب ثالثاً إخضاع المؤسسات الدينية، أسوة بكل المؤسسات الأهلية، للرقابة الإعلامية والمالية بما يحفظ للدولة سيادتها وبما يحول دون توظيف الطائفية في خدمة مصالح السياسيين وفي تخريب الوحدة الوطنية والاعتداء على سيادة الدولة.