“متى ستُقنعين ماريانا باعتناق الإسلام؟”
هكذا، وبلا مقدّمات معهودة تُخفّف من وقع الكلام، أطلق الوالدُ على مسامع ابنته ذلك السّؤال الّذي لا يحتمل تأويلات على أكثر من وجه. لا شكّ أنّ وجه ماريانا البشوش هو ما دفع الوالد إلى طرح هذا السؤال، الطّلب، على ابنته حاثًّا ايّاها على أن تتحدّث في الموضوع مع صديقتها الجديدة.
لقد عبرت ماريانا البحر المتوسّط قبل سنوات قادمة إلى الصّحراء عاملة مع إحدى الشّركات الّتي تقيم علاقات تجاريّة مع هذا البلد القابع في شمال أفريقيا.
***
تروي لي ماريانا تفاصيل الحكاية على شرفة الفندق المطلّ على بحيرة بلقانيّة وادعة. ما هي إلاّ درجات قليلة تنزل من شرفة الفندق، ثمّ خطوتين أو ثلاث وتستطيع أن تلامس مياه البحيرة. لم أر في حياتي مياه بحيرات بهذه الشّفافيّة. وبمثل شفافيّة مياه البحيرة عيونُ ماريانا الّتي تغنّي لي بصوتها العذب الّذي تشوبه لكنةٌ أعجميّة خفيفة تُضفي عليه جمالاً فوق جمال. إنّها تغنّي لي بالعربيّة، نعم بالعربيّة، من أغاني أم كلثوم وفيروز، فأردّد معها ما يحضرني من أغاني أم كلثوم ثمّ أقول لها، إنّي لستُ من عشّاق فيروز. ففيروز في رأيي تليق بالموسيقى الخفيفة المنطلقة في مجمّعات تجاريّة مرضاة للزّبائن حيث يجول المتسوّقون في الصّالات،أو هي تليق بالسمّاعات المثبتة في المصاعد الكهربائيّة الّتي تنقل البشر إلى طوابق عليا في ناطحات سحاب وما شابه ذلك. أمّا أم كلثوم، أقول لها، فهي للرّوح، وأنا أميل في لحظات الوجد لذلك الغناء الّذي يستوطن الرّوح. وأم كلثوم هي سيّدة الرّوح العربيّة ولذلك فروحي تميل إليها ميلاً شديدًا.
***
أقول هذا الكلام الآن غير مصدّق نفسي، إذ أنّي في نزق الشّباب والمراهقة وتحت تأثير التّيارات اليساريّة والشّيوعيّة في ذلك الحين، كتبت مرّة كلامًا سخيفًا أطلقتُ عليه زورًا نعتَ “قصيدة”، وصفت فيها أم كلثوم بالمصيبة، كما لو كانت، مثلما هو الدين في عرف ماركس، أفيونًا للعرب. لم أفرّق في ذلك الأوان بين الفنّ والعقيدة، وبين اللّحن والقصيدة. لقد كنتُ أقرب إلى التزام الهبل في الأدب منّي إلى الأخذ بزمام الرّوح والعقل. هكذا حاولوا أن يلقّنونا في تلك الأيّام، ونحن الّذين بدأنا نتلمّس خطواتنا في الكتابة في سنّ مبكّرة اعتقدنا كما يعتقدون وسرنا على خطى أولئك الّذين سفّهوا الشّعر بمسمّيات “الواقعيّة” حينًا، ومسمّيات “المقاومة” حينًا آخر.
لحسن حظّي أنّي فُطمتُ عن هذا الهبل الملتزم سريعًا، في حين لا زال كثيرون يقبعون حتّى الآن في مصحّات الفطام عن هذا الأدب، الّذي هو إلى قلّته أقرب.
***
ماريانا تعرف العربيّة وتتحدّث بها بطلاقة قد يحسدها عليها أبناء هذه اللّغة الّذين يدّعون أنّها لغتهم الأم في حين يجدون صعوبة قصوى في التّعبير عن ذواتهم بها. ولغة ماريانا هي عربيّة فصيحة متبّلة أحيانًا ببعض المفردات من اللّهجات المحليّة، إذ أنّها زارت بعض البلدان العربيّة وقضت فيها أوقاتًا تطول أو تقصر.
ماريانا هذه من البوسنة، ومن سراييڤو على وجه التّحديد. إنّها كرواتيّة ومدرّسة للّغة والأدب العربي. تُحدّثني عن حياتها في سراييڤو وعن الحرب القذرة الّتي دارت رحاها في ذلك البلد قبل مدّة غير طويلة. تقول لي ماريانا أنّها زارت كرواتيا بعد الحرب وتبوح لي بسرّ قائلة بأنّها ورغم أنّها كرواتيّة، وهناك دولة اسمها كرواتيا وهنالك شعبٌ كرواتي فيها، إلاّ أنّها من سراييڤو وهي تشعر أكثر قربًا إلى أهل البوسنة على اختلاف أطيافهم الإثنيّة، من كرواتيّين وصرب ومسلمين.
***
تقول لي ماريانا إنّ الحرب البوسنيّة قد فرّقت شمل العائلة الواحدة. لقد عاشت أطياف الشّعب البوسني جنبًا إلى جنب وكثر التّزاوج فيما بينهم على اختلاف مذاهبهم حتّى جاءت الحرب الإثنيّة القذرة ففرّقت بين الزّوج والزّوجة وبين الأبناء والآباء، ففرّ من فرّ منهم ولجأ من لجأ منهم إلى بلاد أوروبيّة أخرى بينما بقي البعض منهم، ورغم كلّ تلك المآسي، في بلده. الآن، تُضيف لي ماريانا، هنالك حركة حثيثة لدى الشّباب في البوسنة بالعودة إلى حياة مشتركة وإلى تزاوج مختلط بين إثنيّات هذا البلد. تقول، إنّ الشّباب يعرفون في صميم صميمهم أنّ الحلّ لهذا البلد هو بالمزج التّام للأطياف الإثنيّة والدّينيّة فيما بينها، لأنّه بغير هذا المزج فإنّ ما جرى في البوسنة من شأنه أن يتكرّر يومًا ما في المستقبل، وهؤلاء الشّباب يريدون بهذه الحركة الّتي تنتصر للحبّ أن يقطعوا الطّريق على إمكانيّة تكرار مثل هذه الكوارث.
***
“هل أقنعت ماريانا باعتناق الإسلام؟” سأل الوالد ابنته بعد أن عادت من زيارة أخرى إلى بيت صديقتها الجديدة الّتي تعرف العربيّة والأدب العربي. ربّما كانت معرفتها للعربيّة والحديث بها بهذه الطّلاقة هي ما دفع والد سهام أن يطرح عليها ذلك السّؤال الغريب. غير أنّ ردّ سهام على سؤال والدها هذه المرّة قد أوقع صدمة على مسامعه. قالت سهام لوالدها: “يبدو لي الآن أنّي صرت أقربَ إلى اعتناق المسيحيّة منها إلى اعتناق الإسلام”. قطّب الوالد جبينه، ولم يتحدّث بعد في الأمر مع ابنته بشأن ماريانا.
***
تروي لي ماريانا تفاصيل الحكاية، وتبتسم الآن أمام هذا الأفق الّذي بدأت قطع الغيوم البيضاء الّتي تكسو بعضه، تصطبغ بحمرة الغروب حينًا وبلون البرتقال حينًا آخر تاركةً صلعات من الزّرقة الّتي طفقت يعلوها السّواد رويدًا رويدًا.
الآن تعلو البسمة محيّاها، بينما تقول لي إنّها لم تبتسم آنئذ، لأنّها كانت قد غضبت على صديقتها في تلك الفترة بسبب هذه الإجابة. كانت تعلمُ أنّ شيئًا مثل هذا قد يورّطها هي ويورّط صديقتها في مشاكل هي في غنى عنها. إذ قد تُتّهَم هي الآن بأنّها تقوم بأعمال تبشيريّة في بلد إسلامي، في حين قد تُتّهم صديقتها بالرّدّة. أولَمْ يُروَ في صحيح البخاري عن النّبيّ أنّه قال: “من بدّل دينه فاقتُلوه”؟ وهي لا تريد لصديقتها سهام سوى الخير.
***
حاولت سهام أن تقنع ماريانا باعتناق الإسلام، محدّثةً إيّاها عن الجنّة الّتي ستكون في انتظارها إن هي اعتنقت الإسلام، فاستغربت ماريانا هذا الكلام، وكأنّ اللّه هذا الّذي يدّعي المؤمنون بكمال عدله يفرّق بين بني البشر. أو كأنّ هذه الجنّة هي حكرٌ على واحد دون الآخر.
تروي لي ماريانا كيف حاولت سهام بشتّى الوسائل أن تستميلها إلى اعتناق الإسلام، مرّة بالتّرغيب بالجنّة، ومرّة بالتّرهيب من النّار معدّدة أمامها أسماء اللّه الحسنى.
قالت سهام: أتعرفين يا ماريانا أنّ للّه تسعًا وتسعين اسمًا في الإسلام. فتردّ عليها ماريانا: نعم، أعرف. ولكنّ اسمًا واحدًا قد نقص من كلّ هذه التّسعة والتّسعين.
تسألها سهام: وما هو هذا الاسم النّاقص؟
فتردّ ماريانا: المحبّة.
من جهة أخرى
***
اقرأ أيضًا: ماريانا