هل نضج فهمنا السياسي والعاطفي لحرب هتلر وأفكاره النازية، أم لا يزال تعاطف الكثيرين معها ثابتاً دون تغيير منذ عقود وسنين؟
الكثيرون للأسف لا يرون بأساً في بعض سياساته! فهو لم يشن حروبه على دول العالمَين العربي والإسلامي، في رأي هؤلاء، ولم يهدم عاصمة عربية على رأس سكانها، ولم يحرق في معسكرات الاعتقال المسلمين والعرب بل أعداءهم من اليهود والغجر وبقية الأسرى والمعارضين!
ويحب البعض هتلر كرهاً في إسرائيل، أو تشفياً في الإنكليز والفرنسيين والأميركان، ويحبه آخرون ويعجبون به كـ«بطل قومي» انتصر على كل الدول أو حارب على أكثر من جبهة، وإذا كان قد هُزِم في النهاية فلأن الكثرة تغلب الشجاعة، وإذا كان فوهرر الرايخ قد دمر ألمانيا وأوروبا وشمال إفريقيا فهكذا الحروب!
في الكثير من الثقافات ولدى العديد من الشعوب مكانة خاصة للقادة العسكريين والزعماء مهما استبدوا ومهما فعلوا بشعوبهم وباقي الشعوب، وهناك في روسيا من لايزال يقدس ستالين، وفي العراق وغيره من لايزال يرى في صدام حسين بطل الأبطال ورمزاً للشجاعة والعروبة، وفي صربيا من ينحني لذكرى بعض قادتها من عتاة مجرمي الحرب والتصفية العرقية، وفي جمهوريات آسيا الوسطى المغولية أو التركية الثقافية من يعجب بشدة بجنكيز خان وهولاكو وتيمور لنك باعتبارهم من الأبطال والفاتحين، وإن كان بين ضحايا هؤلاء المغول الكثير من العرب والمسلمين، فمن قال لهؤلاء العرب والمسلمين أن يقاوموا التتار؟!
قرأت عن رحالة فرنسي من تجار الخيل يدعى «داموازو» M.louis Damoiseau، كان في دمشق عام 1820، وربما قبل ذلك أثناء الحروب النابليونية التي قلبت أوروبا رأساً على عقب كالحرب العالمية الثانية، بعض الشيء، حيث فوجئ الرحالة برغبة الباشا «حامد» الذي كانت تحت إمرته إسطبلات الحكومة، في أن يقوم الرحالة الفرنسي، تاجر الخيل، بزيارته.
يقول داموازو: «رغب الباشا في محادثتي، فقادوني إليه، ووجدته راقداً على ديوان، ويحيط به ضباطه الواقفون في صمت، قال لي لمّا لمحني: صباح الخير، هل من أخبار عن نابليون؟ أود أن تطلعني عليها، تعال اجلس بجانبي وحدثني عن هذا الرجل العظيم… ودار حديث طويل حول هذا الموضوع. وكان حامد، باشا دمشق، يرسم على وجهه في كل لحظة علامات تعجب، ويطلق صيحات حماسة، ويصرخ: أي خطأ لعبقري مثله أن يسلم نفسه لأعدائه المجرمين؟! لماذا لم يأت إلى هذا الإقليم؟! فإن الإكرام الذي نكنه له هنا كان سيجعل منه الملك الأقوى على الأرض! أية غلطة؟ أية غلطة؟… ثم أطلق بحزن وهو يخفض رأسه أنفاس الدخان التي سحبها من غليونه، وبما أنه كان قد أعطاني غليوناً مماثلاً، ورغبة مني في مشاركته الأحاسيس نفسها، فقد عبرت عن التعاطف الأقوى بإطلاقي غمائم كثيفة من الدخان في المكان بينما كنت أردد: للأسف، نعم، يا لها من غلطة، يا لها من غلطة! وعندما رأى الباشا أنني أشاركه الرأي نفسه، نعتني بالرجل الشجاع. وبعد أن ملّ الحديث وربما الإصغاء لي قال: اذهب الآن، وعاين خيولي، ثم ارجع لتُسمعني رأيك، لابد من أنك رجل مثقف وقدير، وأنا أثق بك».
(دمشق في نصوص الرحالة الفرنسيين بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، إعداد د. كارين صادر، بيروت، 2010، ص122).
يعاني ساسة ألمانيا إلى اليوم من الماضي النازي والهتلري، وما يلقيه على الحاضر الألماني، والسياسات الجديدة وبعض القرارات من ثقل وظلال محرجة، كما رأينا في اعتراضات بعض المتظاهرين اليونانيين ضد قرارات ألمانيا وأوروبا بفرض سياسات مالية على اليونان اعتبرها اليونانيون مجحفة.
وبينما يجد العاملون الألمان في بعض الدول الأجنبية ولاسيما الأوروبية، وربما روسيا وأميركا، حرجاً مفهوماً من مناقشة قضايا تاريخية أو سياسية معينة، ترى الموظفين والمهندسين والخبراء الألمان يحاولون عبثاً في العالم العربي إقناع المصريين أو الفلسطينيين أو السوريين أو الخليجيين وغيرهم، بأن ما فعله هتلر والنازيون كان سلسلة من الجرائم بحق الإنسانية، وبحق ألمانيا نفسها، في العديد من الأفعال والسياسات، التي تركت البلاد في النهاية خراباً يباباً، وأن هذا النظام الإجرامي كان وبالاً ودماراً على الدولة المتقدمة ذاتها والشعب الألماني نفسه، بينما لا تزال للقائد النازي أدولف هتلر جاذبية لدى قطاع واسع في العالم العربي، وربما انبهار بكل تلك الحرب المروعة التي أشعلها رغم ضخامة حجم الضحايا واتساع نطاق الدمار، ورغم صورته البشعة اللاإنسانية وجرائمه الرهيبة في أوروبا والغرب عامة.
ولا يزال كتابه «كفاحي» الذي ترجم إلى العربية مراراً، مختصراً ومفصلاً، موجوداً في واجهة كل فاترينات المكتبات التجارية في العواصم العربية، وربما الإسلامية، كذلك ربما في كل بيت، ولا أدري إن قام أي باحث بدراسة هذه الترجمات وقارن بين محتوياتها ومدى دقتها، حيث يتفاوت حجم الكتاب من ترجمة إلى أخرى.
كان المؤلف المصري المعروف أحمد عطية الله، وهو من وضع موسوعة قيمة وكتب عدة كتب ومنها «لندن» 1934، و«برلين» 1936، ربما أول مؤلف عربي جادّ يفضح تفاهة كتاب «كفاحي»، قبل أن يترجم وينشر في العالم العربي، فقال عنه: «منذ عهد قريب، نشر الدكتاتور الألماني كتاباً ضخماً سماه (جهادي) وقليل من الزعماء الدكتاتوريين من يجد الوقت لتأليف كتاب تبلغ صحائفه المئات، ولكن الزعيم الألماني وضع هذا الكتاب وهو في السجن، والسجن في حياة القادة فصل لابد أن يمثلوا دورهم فيه… وفي هذا الكتاب الذي لا نعترف بأنه مثال من الأدب الراقي، ولا يعترف بذلك مؤلفه، نرى هتلر الفلاح والجندي البسيط هو هتلر الزعيم الخطيب الذي كتب هذا الكتاب، وأن كلامه معاد مكرر ككل خطيب يتلوك الفكرة الواحدة، حتى يشعر أن سامعيه قد أقروا رأيه أو فهموا قصده». (103)
وكان الدكتاتور يومذاك ملء السمع والبصر في العاصمة الألمانية وكل المدن والأماكن، وكانت تحية الألمان «هيل هتلر» في كل مكان، فأبدى «عطية الله» استياء من الظاهرة قائلاً: «تعجب كيف أتى لشعب من أكثر شعوب الأرض ثقافة أن ينسخ أقدم التقاليد فيبدل مراسيم التحية والسلام فيقرنها باسم زعيمه، بدلاً من جمل البركة والدعاء؟!»، ويقول: «هذا هو هتلر زعيم الألمان، أيقونة برلين، الذي ترى صورته في كل مكان، في الفندق الذي تنزل به، في المطعم الذي تحل عليه، في دور السينما، في المتاجر والمصانع… هذا هتلر الذي لا تخلو صحيفة من صحف ألمانيا في يوم من الأيام من صورة من صوره، جالساً أو مسافراً أو خطيباً أو مؤاسيا أو مستعرضا. والألمان بطبيعتهم يمليون إلى رفع أبطالهم إلى مقام التقديس، لقد قدسوا هندنبرغ، ولقد رفعوا بسمارك إلى مرتبة البطولة الإغريقية القديمة، وها هم الآن يضعون هتلر فوق هؤلاء جميعاً». (ص100)
كان لهتلر أنصار ومعجبون يومذاك في العالم العربي كذلك، وربما لا يزال، فلا الاعلام العربي ولا الثقافة العامة تنتقد النازية أو مغامرات هتلر وجرائمه بشكل جاد عميق، وقد يرى فيه إلى الآن بعض المثقفين أو الإعلاميين العرب «زعيماً وطنياً»، ربما كان متشدداً بعض الشيء، ولكن «لا يختلف ما فعله هتلر والسياسات النازية عما فعلته الدول الاستعمارية الأخرى»! وسنناقش هذا لاحقاً!
لقد استحوذ هتلر، كما يقول أحد العرب الذين اشتهروا في مجال خدمة الإعلام النازي وإذاعة برلين العربية خلال سنوات الحرب، وهو المذيع يونس بحري، يقول: «استحوذ هتلر على قلوب المتطرفين في الوطنية العربية، لأنهم كانوا يعتقدون أنه مناط الأمل في الخلاص من الاستعمار، ومن النير اليهودي الذي كان ينوى نصب شراكه في فلسطين ليمد الأخطبوط الإسرائيلي أصابعه إلى البلاد العربية المجاورة (هنا برلين- حي العرب، ج5، 1955، يونس بحري، بيروت، ص29).
كانت ثمة معركة إعلامية ليلية آنذاك بين إذاعة برلين واذاعة لندن، العربيتين، وكان يونس بحري نجماً لامعاً في هذه الحرب من خلال إذاعة «هنا برلين- حي العرب»!
وليس يونس بحري (1900-1979) بالشخصية المجهولة في التراث الكويتي كذلك، فقد كان شريك المؤرخ الكبير عبدالعزيز الرشيد، حيث أصدرا في إندونيسيا معاً مجلتهما المعروفة بعنوانها الغريب «الكويت والعراقي»!
يقول د. خليفة الوقيان، في تقديمه للطبعة الجديدة من «تاريخ الكويت» الذي اعتنى بنشره حفيد المؤرخ، «خالد الرشيد»، وأصدره عام 2016 في الكويت: «حين توقفت مجلة الكويت بعد عامين أعاد إصدارها- أي المؤرخ الرشيد- من إندونيسيا مرة أخرى عام 1931 بالاشتراك مع السائح العراقي يونس بحري، فحملت اسم (الكويت والعراقي)، أي الكويت المجلة السابقة، التي كان يصدرها الرشيد، والعراقي أي السائح العراقي يونس بحري، شريكه في إصدارها، خلال إقامتهما في المهجر الإندونيسي». (ص26)
كان أسلوب يونس بحري الإعلامي صاخباً براقاً شأن الإعلام النازي عموماً، ومن الأخبار التي أذاعها المذيع بحري في إذاعة برلين العربية «نبأ ولادة هتلر في بغداد»، وذلك بعد أن رُزِق شيخ بني تميم «علي السهيل» – القبيلة التي يقول بحري إن شيوخها اشتهروا بميولهم البريطانية- ولداً أسماه «هتلر»، تيمناً باسم زعيم الرايخ الألماني الثالث، فأحدث الخبر كما يقول بحري «ضجة عالمية». (ص29)
ونتوقف عند مصطلح «الرايخ الثالث» الذي يتردد كثيراً، فما المقصود به لدى الحديث عن ألمانيا الهتلرية؟
تعني الكلمة الدولة الثالثة أو العهد الثالث وتعني كلمة «رايخ» Reich بالألمانية المملكة أو البلد أو الدولة، فمثلاً فرنسا تسمى بالألمانية «فرانك رايخ»، Reich Frank.
وتقول «موسوعة بنجوين للقرن العشرين»، (لندن 2002) في تعريف عبارة «الرايخ الثالث» Third Reich إنها «التعبير النازي في وصف النظام في ألمانيا ما بين يناير 1933 حتى مايو 1945، وقد ظهر المصطلح مبكراً في عشرينيات القرن في أعمال كاتب قومي هو مويلر فان در بروك Moeller Van der bruck الذي استخدمه عنواناً لكتاب، وسرعان ما تم تبنيه من قبل النازيين- في إعلامهم – لتأكيد استمرارية نظامهم للرايخ الأول First Reich (الإمبراطورية الجرمانية في العصور الوسطى) والثاني Second Reich ما بين 1871 – 1918، (497 ص)، والتي انهارت في نهاية الحرب العالمية الأولى.
(the penguin Dictionary of Twentieth Century History. Alan Palmer. Penguin Books.2002)
لم يكترث المثقفون والسياسيون في العالم العربي لدى صعود النازية وألمانيا الهتلرية عام 1933 بالوجه الآخر من نظريتها العنصرية، ودفاعها عن سيادة «الجنس الآري» ودعوتها إلى استعباد أو تصفية الأجناس البشرية الأخرى، وخصوصاً الساميين واليهود وحتماً العرب، وقد سمى النازيون إبادة اليهود بالذات «الحل النهائي» final Solution، ولم يدرس الباحثون العرب الجانب النظري البالغ الخطورة واللاإنسانية من النازية وفكرها، ولم تبرز من الكتب الناقدة والمهاجمة للنازية والمعرية لها إلا القليل مثل «هتلر في الميزان» للأديب المفكر عباس محمود العقاد، مطبعة حجازي بالقاهرة 1940.