أنهى المفتي الجعفري الممتاز تصريحه الأخير بعبارة «وقد أُعذر من أنذر». يتكلّم وإصبعه على الزناد. لا عذر لعنفه الكلامي لأنه ليس مفتياً عادياً بل ممتاز إبن مفت ممتاز. كان عليه أن يرث عن والده الهدوء والظرف، وأن يغلّف مثله الصراحة بالدعابة والعفوية.
قلّبت صفحات المراجع الإلكترونية لأطلع على تصريحات له لا تعد، فلم أجد فيها مفردة واحدة من مفردات القرآن الكريم. قاموسه اللغوي صدامي حربجي، وكأنّه من مواليد الميليشيات أو من خرّيجي الحرب الأهلية. «تسونامي وإبادة ومجزرة وخنق وسحق وسكتة دماغية وفلتان وعصف وشحن طائفي وتجويع وترويع وعداوات وغرف سود وطحن وتفكيك وترسانة مخابرات وخراب ومتاريس». هذا كله في تصريح واحد من ثلاثة أسطر. المنهج البنيوي في قراءة النصوص يفضح الجو القتالي الطاغي على كلام لا يناسب مقام الإفتاء.
في تصريح آخر رأى سماحته أنّ «الاستحقاق الانتخابي عبادة كبرى، وفريضة وطنية وأخلاقية ودينية حاسمة، والتردد ممنوع؛ بل حرام، وترك المعركة الانتخابية حرام، والورقة البيضاء حرام؛ ومن يعتزل المعركة الانتخابية إنما يعتزل أكبر فرائض الله». هو لا يدرك أنّ ثنائية الحلال والحرام عنف ما بعده عنف. مفتٍ آخر «غير ممتاز»، رأى في ردّ وصفته الصحافة بالناري، أنّ من يحرّم ويحلل في المذهب الجعفري يجب أن يكون في رتبة مرجع ديني مجتهد ولا يمكن للمفتي قبلان أن يصدر فتاوى دينية وربما اعتبر قوله «فتوى سياسية» وليست دينية. فهل يحق للممتاز ما لا يحق لسواه؟
في مقابلة متلفزة سأل الصحافي عماد الدين أديب المرجع الديني محمد حسين فضل الله عن الآلية التي تطلق فيها الألقاب على المعممين مثل حجة الإسلام، العلاّمة، آية الله، آية الله العظمى؛ مهد لسؤاله بطريقة الحصول على لقب علمي الذي يناله صاحبه بقرار من لجنة يتم اختيارها من كبار الباحثين والأساتذة الجامعيين، فكان جوابه إنّ الألقاب الدينية يقررها الجمهور، أي فئة معينة من الرأي العام. كلما ذكرت هذه العبارة يترحم المثقفون على سعيد تقي الدين.
في نظام التفاهة اللبناني استبدل الحاكم الكفاءة العلمية بشطارة التزلف، وتحوّل الحق العام والحقل العام والوظيفة العامة، إلى ملكية خاصة، بل ملكية حزبية، وانهارت القيم وتخلخلت المعايير وبيعت الذمم، حتى الفتاوى صارت «غب الطلب» وبتكليف شرعي، فصحّ وصف الزمن بالرويبضة، أي الزمن الذي يسوس فيه العامةَ سفهاءُ العامة.
نظام التفاهة استهدف الدولة ومؤسساتها ومقوماتها. استبدل الكفاءة وتكافؤ الفرص بالزبائنية، بادئاً باحتقار العلم وتخريب الجامعة اللبنانية والنظام التعليمي وإباحة بيع الشهادات في سوق الجهالة الجهلاء «ووضع الندى في موضع السيف بالعلى». جريمته الكبرى تحطيم هيبة القانون والقضاء على القضاء.
لم يحاسب المفتي على رفع سبابته، ذات يوم، مهدداً متوعداً مزبداً مرعداً ضد المساس بقوانين الطوائف للأحوال الشخصية، ولم يحاكم بتهمة التطاول على الدولة والقانون وعلى رئيس الجمهورية، فاستسهل الأمر ونظم غزوة على كنائس الأشرفية ضد الدنمارك وشن هجوماً على الفنان مرسيل خليفة. من باب قراءة مغلوطة للنص القرآني. استعادة جزئية لهيبة القانون انتهت به معزولاً بتهمة الاختلاس.
مؤسسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كان لها من التدمير نصيب. أيام السيد موسى الصدر تشكلت هيئاته من كفاءات الطائفة المنتخبين، وفي زمن التفاهة وضع معيار الكفاءة جانباً وساد معيار الاستزلام. إعادة بناء هذه المؤسسة جزء من إعادة بناء الدولة استناداً إلى معايير العلم والكفاءة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون.
لسنا ممن يضع مقام الإفتاء موضع سخرية ولا ممن يعترض على تدخل رجل الدين في السياسة. هذا حق من حقوق الإنسان. غير أنّ نظام التفاهة دمر الدولة ومؤسساتها والكفاءة ضحيته الأولى. إعادة الاعتبار للكفاءة وللقانون مدخل أساس لإعادة بناء الدولة وكل المؤسسات، بما فيها الدينية.