عجز الأمين العام لـ “حزب الله”، حسن نصرالله، الذي “يتطلع إلى أبعد من البعيد” بحسب خطابه ما قبل الأخير؛ عجز عن رؤية ما يحصل أمامه، وما يجري، ليس تحت قدميه بل تحت حذائه الذي تقدسه الجماهير وتفدي روحها وتهرق دمها في سبيله.
اطمأن إلى متانة قلعته الإسبرطية الحديدية. لكنه نسي في غمرة انشغالاته، التي تتعدى الحدود اللبنانية لتشمل الكرة الأرضية، أن اللبنانيين بشر ولديهم حاجات وطاقة قابلة للاستهلاك وكرامة ومشاعر إنسانية.
فهو، ومعه من رفع لاءاته الثلاثة لحمايتهم وفرضهم على الشعب اللبناني الثائر، يتأخرون في قراءة معنى نزول مئات الآلاف إلى الشوارع. لذا يجهدون (نصرالله وحلفاؤه) في تعداد المتظاهرين للتقليل من أهميتهم. يقسمون الناس مربعات وساحات؛ شرفاء وتابعين لسفارات ومنفذين لانقلاب؛ وأخيرا من لديهم مطالب محقة ومن يعتبرون مطالبهم غير محقة.
يحولون المواطنين أرقاما: 250 ألفا أو 370 ألفا. يتناسون أن الألوف التي يعدونها متواجدة على مدار الساعة تقريبا وفي جميع المناطق من الشمال إلى الجنوب، ومن الشاطئ إلى أعماق البقاع! بشكل بدا معه “الأهالي”، الذين كانوا يتحركون على “الريموت كونترول” ويقفلون الطرقات كلما احتاج “حزب الله” لذلك كالكاريكاتور.
يتجاهلون أن هذه الأرقام تعني أنهم الكتلة الحيوية من الشعب اللبناني، بمن فيهم الكثيرون من أبناء بيئة الثنائية الذين ظنوا أنها “في عبّهم” مستسلمين لسحر خطاب “السيد” ولقداسته التي تم بناؤها “لبنة لبنة” على مدى عشرات السنين.
غرضهم من كل ذلك إنكار الواقع والتعامي عن أنها ثورة وليست مجرد حراك ولا انتفاضة. ثورة طليعية وغير مسبوقة مستمرة منذ أسبوعين في أكبر تنوع واختلاط بشري عرفه لبنان. من جميع الطوائف والمذاهب والأديان، التي وضعوها في قلوبهم ربما، لكن نزعوها عن أعلامهم وشعاراتهم، محتفظين بالعلم اللبناني كهوية وحيدة.
إنها ثورة غير مسبوقة؛ وعلى حد علمي، لم ينزل من قبل ما يقارب من نصف سكان بلد ما للمطالبة بتغيير السلطة الحاكمة لفسادها وعجزها عن إدارة شؤون الناس.
يعيّر نصرالله المتظاهرين بعجزهم عن تشكيل وفد لنقل مطالبهم إلى رئيس الجمهورية الذي قبل، “مشكورا”، بالاستماع إليهم. لكن مطالبهم واضحة، وهي إسقاط الحكومة من أجل حكومة مصغرة من خبراء يتمتعون بالنزاهة ويحوزون الثقة للتحضير لانتخابات جديدة تعبر عن طموحات الشباب اليافع الذي يشكل جسم الثورة الأساسي؛ واسترجاع حقوقهم البديهية المصادرة.
تبين للبنانيين أن خلافات ونزاعات السياسيين التي يشهرونها عند اختلاقهم الأزمات باسم انتزاع حقوق الطائفة والمذهب والمنطقة كانت عدة شغل لذر الرماد في العيون وتأليب المواطنين ضد بعضهم البعض من أجل انتزاع الحصص لجيوبهم. نظر المواطن فوجد نفسه عاريا مذلولا في بلد غني تهدر ثرواته وتسرق بالمليارات.
يشكو نصرالله من تحوير خطابه، وينسى أنه يناقض نفسه بنفسه من خطاب إلى آخر والتسجيلات شاهدة. وتحميله وسائل الإعلام تهمة التحوير فيه نوع من عدم احترام ذكاء الرأي العام وقدرته على الفهم والتأويل بنفسه.
وبعد تحذير نصرالله من الضغوط الأميركية وغير الأميركية على لبنان، يخلص إلى: “نطالب بحكومة سيادة حقيقية، فيكون القرار لبنانيا، ومَن يقول إنّ قرارنا إيرانيّ، فأردّ عليه أنّ قرارنا وطني سيادي حرّ مستقلّ”.
للمفارقة، يتكلم نصرالله عن السيادة بعد التدخل المباشر لخامنئي وتعليقاته على ما يحدث في العراق وفي لبنان؛ وبعد أن تحوّل لبنان إلى دولة فاشلة مخطوفة وصارت أجهزته الرسمية مجرد واجهات جوفاء تُخفي السلطة الحقيقية التي يمارسها “حزب الله”.
وأفضل شهادة على ذلك ما ينقل عن المسؤولين الإيرانيين: “في عام 2017، صرح الجنرال إسماعيل قاآني، الرجل الثاني في “فيلق القدس” تحت قيادة الجنرال قاسم سليماني، أمام ندوة لـ “الحرس الثوري” الإيراني أن القوة الحقيقية في كافة البلدان ذات الأهمية للجمهورية الإسلامية تقع في أيدي قوى المقاومة ذات الصلات الوثيقة بالثورة الإسلامية. ولقد أعرب قاسم سليماني بنفسه عن ذلك المعنى بصورة أكثر وضوحا في أول مقابلة شخصية له على الإطلاق بأنه لم يعترف أبدا بوجود أي شيء يشبه وجود الدولة في لبنان”، كما ورد في مقال للصحفي أمير طاهري.
لـ “حزب الله” أجندة مزدوجة؛ فهو يدير جيشا مستقلا في لبنان، أكد على ذلك نصرالله في خطابه الأخير، عندما ادعى أن لـ”المقاومة” أن تمارس حقها وأن لها برنامجها الخاص وليس لأحد أن يتدخل به. بالإضافة إلى ما ينقل عن سطوته على أجهزة في الجيش وبعض الأجهزة الأمنية والاستخبارية الرسمية.
وبما أن الأمين العام لـ”حزب الله” يعلن انتماءه للمحور الشيعي الذي ترعاه إيران نجده يكتفي بالسيطرة الخفية في لبنان ولا يعمل ليكون صاحب السيادة السياسية. من هنا حرصه الشديد في خطابه على نفي هذه السيطرة التي مارسها من مايو 2008 إلى 2011 ووصل به الأمر لفرض انتخاب الرئيس الحالي وفرض قانون الانتخاب الذي كان يسعى إليه منذ العام 2009. ثم يقول إن الحكومة ليست حكومة “حزب الله”، لكنه لا يستطيع أن ينفي أن العهد هو عهد “حزب الله”.
لكن حرصه على الرفض الشكلي لهذه الهيمنة والحرص على وجود سعد الحريري يسمح له، عبر لبنان، بالاستفادة من العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الدول الغربية، بما في ذلك المساعدة العسكرية التي تمنحها الولايات المتحدة، والتي جمدت الآن نظرا للأحداث.
كما أن نفيه الهيمنة على السياسات اللبنانية يسمح له بالتهرب من المسؤولية وضررها. وهذا ما يؤكده تصريح رئيس كتلة “حزب الله” النيابية النائب محمد رعد بالمطالبة بمحاسبة المسؤول عن الفساد! بينما المسؤولية الأدبية والأخلاقية تفترض محاسبة جميع أركان السلطة المشاركين في السياسات على أدائهم الذي أوصل البلاد إلى هذا الدرك.
العنف مقابل التظاهر السلمي
لا يشير نصرالله إلى الضغوطات التي مارسها مع العهد على قائد الجيش بهدف قمع التظاهرات، ما حدا بهذا الأخير إلى إصدار بيان برفض منع حرية التظاهر. وينكر تهديده للبنانيين لكن هذا النفي لا يدوم سوى برهة، إذ سرعان ما ينسى ما قاله ويعلن: “لم يتصرف “حزب الله” بأي ورقة قوة من أوراقه”!
يريد إقناعنا أن نزول الشبان من وقت إلى آخر إلى ساحات التظاهر كي يعتدوا على المتظاهرين السلميين، يأتي رغما عن القيادة.
لكن المشاهدات على الأرض تعاكس ذلك. إذ تبين أن من يضرب هو الذي يعاني من أزمة ضمير وأن المضروب ينتصر عليه لأنه أقوى أخلاقيا. وهذا تماما ما عبّر عنه الممثل بديع أبو شقرا، الذي كشف في تدوينة نشرها عبر حسابه الخاص على موقع “فيسبوك”، ما أبلغه به أحد المحتجين على قطع الطرقات، حيث كتب: “أحد الأشخاص اللي هجموا على المتظاهرين على جسر الرينغ بهدف “فتح الطريق” قال لي شخصيّا: “أيمتى بدُّن يخَلصونا ويستقيلوا ويريّحونا، شو بدّن يصير في دم يعني؟ كل شوي والتاني بيبعتوا ورانا ننزل نفتح الطّريق”.
يعظ بأن “دفع الأمور بعناوين وهويات طائفية ليست من مصلحة البلد”، فيما شبانه هجموا تحت شعار “شيعة شيعة”، في حين رد شاب متظاهر على المعتدي: “أنا شيعي أبا عن جد!”.
يبالغ نصرالله في الحديث عن قطاع طرق وخوات وإهانات مورست من قبل المتظاهرين عند قطعهم الطرق، مع أن الإعلام الجدي لم ينقل أيا منها على حد علمي ونفاها المتظاهرون. لكن عندما سئل شاب من المهاجمين: “لماذا تريد فتح الطريق؟” رد: “كي أذهب إلى العمل”. سئل: “ماذا تعمل”، رد: “أنا عاطل عن العمل منذ 3 سنوات!”.
مسكين المنتمي إلى هذه المنظومة، لأنه وضع في حالة تناقض وجداني بالمعنى النفسي، كالجندي الذي بكى لأنه اضطر إلى أن يقف في وجه أهله وضد قناعاته. لكن إذا كان للجندي اعتبارات مقبولة، فهو يطيع أوامر قيادته بالحفاظ على الأمن والسلم الأهلي. بينما الأول يأتمر بأوامر حزب مرتهن للخارج مهما قيل عن ارتباطه العقائدي بإيران.
يكفي تصريح قداسة الخامنئي الذي يعلن تدخله في أكثر من بلد عربي في معرض رفضه للتدخل “الأجنبي، الغربي الصهيوني الخليجي، في لبنان والعراق”؛ كي يشعر هذا الإنسان ليس فقط بالحرج بل بالتزوير لأنه يعلم تماما أنه ينتمي إلى هذا الشعب الذي يطالب بحقوقه.
على كل حال الثورة لم تكن تستهدف “حزب الله” ولا أولوياته السياسية الإقليمية. هو من يقدم الأدلة في كل خطاب على أنه لم يعد ممكنا لـ”حزب الله” أن يستمر في القبض على مقدرات الدولة اللبنانية. إن أي حكومة لبنانية حيادية تقصد الإصلاح وخصوصا الاقتصادي ستدرك أن ذلك يتطلب الالتزام بالقرارات الدولية.
ليس الشعب الذي قسمه نصرالله إلى فئات صالحة وأخرى طالحة من يمارس الازدواجية. بل سلوكه وخطابه كما خطاب عون وممارساته، فالتظاهرة أمام القصر الجمهوري (يدعو إليها العونيون) إذا حصلت تكون مناقضة للخطاب الذي أدلاه رئيس الجمهورية. أولا هذا يعني أنه غير حيادي بل هو طرف سياسي. إذ أن الحياد يفترض بأن يتحمل التيار صاحب السلطة الكبرى في الجمهورية المسؤولية عن أدائه الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه. هذا يعني قبولهم الانكفاء والجلوس على مقاعد المعارضة.
monafayad@hotmail.com