تباينت المواقف من “قمة الديمقراطية” التي استضافتها واشنطن مؤخرا بدعوة من رئيسها جو بايدن والتي استهدفت ــ طبقا للدولة المضيفة ــ “التماس أفكار جريئة وعملية ضد الاستبداد ومحاربة الفساد في مؤسسات الدولة وتعزيز احترام حقوق الانسان”. بل لا نبالغ لو قلنا أنها حظيت بالسخرية والتندر والتهكم، ليس فقط لأن واشنطن لم تقدم تفسيرا واضحا ومقنعا للديمقراطية، كي تستند إليه في توجيه الدعوات، وإنما أيضا لأسباب كثيرة أخرى.
منها أن واشنطن تريد إعطاء دروس في الديمقراطية فيما هي نفسها فشلت فشلا ذريعا في إقامة نموذجها الديمقراطي في أفغانستان والعراق، دعك مما تسببت فيه من تدمير أسس الدولتين وتمزيق مجتمعيهما وإشاعة الفوضى فيهما. ومنها أنها تغافلت عمدا عن حقيقة أن أنظمة الحكم في عالم متنوع ومعقد كعالم اليوم تأخذ أشكالا متنوعة بحسب ظروف وخصائص ومؤهلات ونخب وتاريخ كل مجتمع.
وبطبيعة الحال جاءت القمة في سياق محاولات بايدن المستمينة لإستعادة دور بلاده العالمي من بعد السنوات الأربع التي تبنى فيها سلفه الجمهوري دونالد ترامب سياسة الإنكفاء إلى الداخل وفق شعار “أمريكا أولا“، وهي من ضمن سياسات ومواقف أخرى يسعى بايدن وإدارته إلى العمل بعكسها، كي لا نقول أنه يسعى لإعادة استنساخ رؤى الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي شهدت ولايته محاولات أمريكية فجة لإسقاط أنظمة شرعية عربية بدعوى نشر الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان، من خلال تجييش وتجنيد جماعات سياسية وفوضوية معينة لإحداث التغيير المطلوب أمريكيا. ولعل ما صرح به بايدن يؤكد أنه ماض على خطى أوباما. فقد ســُجل عنه دعوته إلى “اتباع نهج أكثر قوة للترويج للديمقراطية لأنها لا تأتي صدفة، وعلينا الدفاع عنها والقتال من أجلها وتقويتها وتجديدها“.
ومع فشل إدارة بايدن في وضع تعريف دقيق للديمقراطية، كان من الطبيعي أن تثير توجيه الدعوات إلى القمة سخرية المراقبين ووسائل الاعلام، خصوصا إذا ما علمنا أن دولا كثيرة حليفة للولايات المتحدة تمّ تجاهلها، في الوقت الذي وجهت فيه الدعوات إلى دول ليست في قائمة الشركاء الاستراتيجيين لواشنطن، بل مصنفة أمريكيا ضمن الدول غير الديمقراطية. فمثلا استبعدت جميع دول الشرق الأوسط (عدا العراق واسرائيل) وسنغافورة وفيتنام وتايلاند والفلبين وتركيا والمجر وبولندا، مقابل دعوة دول لا تملك تاريخا ديمقراطيا عريقا مثل العراق وألبانيا وكوسوفو وباكستان والنيجر والكونغو الديمقراطية وانغولا وماليزيا واندونيسيا وجزر المالديف، وإنْ كانت تملك برلمانات وتـُجرى فيها انتخابات دورية.
وفي خطوة، استهدفت إثارة الصين التي كان متوقعا حرمانها من المشاركة، قامت واشنطن بدعوة تايوان، وهو ما جعل بكين تندد وتستنكر وتتهم الأمريكيين بالنفاق، بل ذهبت إلى حد الدعوة إلى منتدى خاص بها للترويج للديمقراطية ذات الخصائص الصينية. ومن آيات الرد الصيني ايضا قيام بكين باصدار “الكتاب الأبيض” الذي جاء فيه أن “الديمقراطية ليست زخرفة للزينة، بل هي أداة لمعالجة القضايا التي تهم الناس، وبالتالي فإن الحكم على ما إذا كانت دولة ما ديمقراطية، أمر يتم من قبل شعبها، وليس من قبل حفنة من الغرباء”. كما أشار الكتاب إلى أنه لا يوجد نموذج ثابت للديمقراطية، لأنها تتجلى بنفسها من خلال العديد من الأشكال، وأنه من غير الديمقراطي تقييم الأنظمة السياسية المختلفة في العالم مقابل معيار واحد، وفحص الهياكل السياسية المتنوعة بشكل أحادي”.
أما روسيا المستبعدة أيضا من القمة فقد تضامنت مع الموقف الصيني بدليل قيام سفيري موسكو وبكين في واشنطن بكتابة مقال مشترك نادر انتقدا فيه القمة ووصفاها بـ “نتاج واضح لعقلية الحرب الباردة” و“الحدث المفضي إلى تأجيج المواجهة الأيديولوجية في العالم“. وبالتزامن تقريبا وصف المتحدث باسم الرئاسة الروسية “دميتري بيسكوف” القمة بمحاولة جديدة لتقسيم البلدان إلى جيدة وسيئة من وجهة نظر واشنطن، مؤكدا أن الأخيرة تحاول خصخصة كلمة الديمقراطية من وجهة نظرها هي فقط.
وفي محاولة يائسة من إدارة بايدن للحد من الانتقادات الموجهة للقمة، سارع بعض رموزها، مثل منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط “بريت ماكغورك”، إلى تلميع فكرة القمة بالتأكيد على أنها ليست في وارد مناقشة كيفية تغيير الأنظمة غير الديمقراطية، وإنما معنية فقط ببحث الدروس المستفادة من فشل مبادرات الترويج للديمقراطية على نحو ما حدث في العراق وأفغانستان. وفي مثال آخر يعكس تخبط الإدارة الأمريكية، طار مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون شرق آسيا والمحيط الهاديء “دانييل كريتنبرينك” إلى سنغافورة لتهدئة مخاوف حلفاء بلاده في المنطقة ممن استبعدوا من القمة. وحينما حاصره الصحفيون بالأسئلة لم يجد ردا سوى القول بأن القمة مخصصة لعدد مختار من الديمقراطيات فقط وليس كلها، من أجل تبادل وجهات النظر وليس لتقييم أنظمة الدول الأخرى.
إلى ذلك قامت بعض الصحف الأمريكية المحسوبة على بايدن بنشر مقالات تدافع فيها عن قمته وتجد لها مبررات جديدة كالقول أن من أهداف القمة البحث في كيفية حماية الديمقراطية من التهديدات الخارجية المتمثلة في استغلال بعض الدول الأوتوقراطية الشريرة للفضاء الديمقراطي المفتوح من أجل القيام بشن هجمات اليكترونية أو بيولوجية. ولا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليعلم أن المقصود هنا هما الصين وروسيا.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي