“معهد واشنطن” – ترجمة “شفاف”
نجحت الحوزة العلمية في النجف، بقيادة علي السيستاني، في إحياء النهج الشيعي التقليدي في السياسة، وهو نهج منافس لنظرية “ولاية الفقيه” التي تُدار من قبل القيادة المذهبية في طهران. بدأت عملية إحياء هذا النهج منذ عام ٢٠٠٣، أي بعد حوالي عقدٍ من تولي السيستاني المرجعية. والسؤال الأساسي هو ما إذا كانت حوزة النجف ستكون قادرة على الحفاظ على وضعها التقليدي بعد السيستاني.
عقيدة دولة النجف المدنية
أعطى سقوط صدام حسين في عام ٢٠٠٣ فرصة مثالية لرجال الدين الشيعة في النجف لتأكيد سلطتهم على الحكومة العراقية. كما اقتربت الأحزاب السياسية الشيعية في العراق، والتي تسعى للحصول على هذه السلطة، من السيستاني لدعم خططها فيما يخص ذلك. لكن السيستاني أيد مفهوم الحكومة المدنية أو غير الدينية ودعا إلى نظام ديموقراطي في العراق.
لمعارضة السيستاني للنظام الديني، جذور عميقة في العقيدة الدينية والفقهية الشيعية، التي ينتمي حق الحكم فيها حصريا إلى نبي الإسلام وأئمته الاثني عشر. وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أدى هذا النهج إلى تشكيل مجموعة من رجال الدين الشيعة من قِبل حركة “المشروطة” في إيران، والذين رجحوا غير رجال الدين أن يكونوا مصدرا للسلطة السياسية. وأدى ذلك إلى إنشاء نظام شبه ديموقراطي في ظل غياب النبي والأئمة. وفي قراءته لهذا الاتجاه، يؤكد السيستاني على وجه التحديد على نظرية ولاية الإنسان (أي النظام الذي يكون الناس فيه هم المدافعون عنه وحراسه) على عكس نظرية ولاية الفقيه (التي يحرسها ويدافع عنها الفقهاء)، والتي صاغها آية الله الخميني، مؤسس الثورة الإسلامية. وفي تعزيز لنهج آية الله السيستاني تجاه الدولة المدنية، لعبت النظرة البراغماتية لحقائق العراق ما بعد ٢٠٠٣ دورا أيضا، في ظل بروز قدر كبير من النزاعات العرقية والديني والتعقيد على جبهات مختلفة.
رفْضُ السيستاني قبول نظرية ولاية الفقيه له جذور عميقة في فكر مدرسة النجف. ومن أبرز مفكري هذه المدرسة، أستاذه أبو القاسم الخوئي (١٨٩٩-١٩٩٢)، وكذلك أستاذ الخوئي الميرزا محمد حسين النائيني (١٨٦٠-١٩٣٦)، والنائيني في إصداره “تنبيه الأمة وتنزيه الملة“، دعا “لولاية الأمة”، بمنح السلطة للناس بدلا من منحها للفقهاء. السيستاني من جانبه لم يكن فقط ضد تشكيل دولة دينية، بل تخطى ذلك وعارض جهود الأحزاب الإسلامية العراقية لتطبيق نظام قضائي قائم على الشريعة الإسلامية.
لا يبدو أن الخلفاء المحتملين للسيستاني لديهم وجهة نظر مختلفة عنه بشأن عقيدة الحكومة المدنية.
ومن الخلفاء هادي الرضائي (مواليد ١٩٤٩) ومحمد السند (مواليد ١٩٦٢) وعلي السبزواري (مواليد ١٩٥٦) ومحمد رضا السيستاني (مواليد ١٩٦٢)، والأخير هو نجل آية الله السيستاني. تكمن قوة النظام السياسي القائم على الإجماع في العراق، وهو مدعوم من شخص السيستاني، في تعقيده وعدم قدرته على التحول إلى نظام قائم على الولاية. فالنظام العراقي الحالي، الذي يتكون من مجموعات عرقية مختلفة وديانات متعددة، لا يمكن بطبيعته أن يتعايش مع حكم رجال الدين، ولا يمكن لأي رجل دين أن يدعي بشكل شرعي وموثوق ارتباط ولاية الفقيه بنظام مثل النظام في العراق.
شبكة السيستاني الاجتماعية
يختلف ظهور المرجع في المجتمع الشيعي المسلم عن اختيار البابا في الديانة الكاثوليكية، والذي يتم من قبل مجموعة من الكرادلة. ففي المذهب الشيعي، تَبرزُ السلطة المرجعية الجديدة بصورة أقل رسمية، وبدعم من شبكتها المالية والاجتماعية، التي وسّع أعضاؤها أفكارهم وأنشطتهم مع مرور الوقت.
تثبيت السلطة الدينية للسيستاني تم في مثل هذه الشبكة الاجتماعية الواسعة والمؤثرة. فهو لديه حوالي ٦٠٠ وكيل في جميع أنحاء العراق، وهو ذو تأثير على العديد من المنظمات الدينية الشيعية في جميع أنحاء العالم. يدير مكتبه في حوزة قم صهره “سيد جواد الشهرستاني”، ويقيم المتحدث الرسمي باسمه “حامد الخفاف” في بيروت. وهاتان الشخصيتان خلقتا شبكة واسعة من العلاقات من شأنها أن تلعب دورا في اختيار المرجع الجديد في المستقبل.
وتحتوي حوزة النجف على بنية متعددة تعمل على استقرار المرجعية الحالية، وتحميها من الجهود الخارجية للتأثير على عملية اختيار المرجعية الجديدة. وتتضمن هذه البنية طيفا من الجماعات الاجتماعية المنتمين إلى الحوزة نفسها، وممثلين ينشطون خارج المجتمع الشيعي، بالإضافة إلى العديد من المنظمات والمؤسسات المالية.
توجد حوزة أخرى في مدينة كربلاء، حيث يقع ضريح الإمام الحسين. تاريخيا، كان يقود حوزة كربلاء الجماعات الإخبارية، والمعروفة بأنها لا تمارس نشاطا سياسيا. القراءة الدينية للأخباريين متجذرة في تفسيرات القرآن والحديث وتجنب الحجج خارج سياق النصوص الدينية. لكن أتباع المدرسة الشيرازية حلوا محل الأخباريين حاليا. ورغم أن حوزتي النجف وكربلاء كانتا في حالة تنافس منذ قرون، إلا أن مكانة حوزة كربلاء تراجعت بمرور الوقت. ومعروف عن الشيرازيين معارضتهم الطائفية للسُنّة، وإيمانهم بالطقوس المتطرفة، مثل ضرب السيوف على الرؤوس.
الاعتدال والمجتمعات الشيعية في العالم
يجب على أي مرشح للمرجعية لخلافة السيستاني أن يعزز نفوذه ليس في العراق فقط بل أيضا في المجتمعات الشيعية الأخرى في الخليج الفارسي ولبنان وشبه القارة الهندية وغيرها. ولن يتحقق هذا الهدف إلا بتبني منهج معتدل للحكومات العربية ذات الغالبية السنية، فالشيعة في هذه البلدان هم الأقليات الأكثر ضعفا. ومثل هذا النهج سيعني استمرار الموقف المعتدل للسيستاني خلال مرجعيته.
فعلى وجه الخصوص، تجنّب السيستاني باستمرار مقابلة المتشددين. وفيما يتعلق بإيران، امتنع عن مقابلة أي شخص يرتبط بطريقة أو بأخرى بالزعيم الإيراني آية الله علي خامنئي، أو بالرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، أو بمحمود هاشمي شاهرودي (توفى) الرئيس السابق لمجلس تشخيص مصلحة النظام. وفي ٢٠٠٤ وأثناء عودته إلى العراق من رحلة طبية، لم يسمح السيستاني لزعيم حزب الله حسن نصر الله أن يستقبله في مطار بيروت.
الميليشيات الشيعية
بعد سقوط صدام حسين من قبل الولايات المتحدة، شكل انتشار الميليشيات الشيعية والسنية تحديا كبيرا للاستقرار في العراق. وبعد حوالي خمسة عشر عاما، دمرت الميليشيات السنية بالكامل تقريبا، نتيجة لتحرير العراق من “تتظيم الدولة الإسلامية” داعش. لكن الميليشيات الشيعية تمكنت من الظهور مجددا بسبب التعبئة الشعبية (أو “الحشد الشعبي”) تحت سيطرة الحكومة العراقية. وقد عززت هذه التعبئة، خلال الحرب مع داعش، سلطتها ونفوذها في المجالين الأمني والسياسي.
كانت فتوى السيستاني في ٢٠١٤ مؤثرة في تشكيل “الحشد الشعبي”، لكن منذ ذلك الحين، حاول السيستاني احتواء طموحات ميليشيا الحشد. وقد تركزت جهود السيستاني على دمج وحدات الحشد في القوات العسكرية العراقية الرسمية، بهدف منع ظهور قوة موازية بقيادة إيران. وعارض خامنئي هذه الخطوة، ودعا السياسيين العراقيين في مناسبات مختلفة إلى عدم دمج كتائب الحشد في القوات العسكرية الرسمية وعدم حلها.
إن دعوة السيستاني إلى الامتناع عن ذكر اسم “الحشد الشعبي”، وإصراره على تجنيد متطوعين في وحداتهم، وجهوده لدمج قوات الحشد في الهيكل العسكري العراقي الرسمي، قد حدت من التأثير الإيراني على موضوع التعبئة. واليوم، هناك فصائل قليلة من الحشد مرتبطة بإيران، من ذلك حركة النجباء وعصائب أهل الحق وسرايا الخراساني. وعلى الجانب الآخر، فإن جيش العباس وكتيبة أنصار المرجعية وكتائب التيار الرسالي وكتائب الإمام علي هم من بين الجماعات الموالية للحكومة العراقية، بناء على طلب آية الله السيستاني.
في ١ يوليو ٢٠١٩، أصدر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي مرسوما يأمر جميع الفصائل في الحشد “بالاندماج في وحدات الشرطة والجيش العراقي”. ومع ذلك، فإن العديد من عناصر الحشد والأحزاب التابعة لها أنشأت هياكل مستقلة عن الدولة. إن تدمير هذه الهياكل سوف يمثل تحديا للعراق، خاصة إذا كانت خطة دمج هذه المجموعات في المؤسسة الأمنية والعسكرية العراقية الرسمية لا تسير على ما يرام. وهذه التحديات يمكن أن تمتد بسهولة إلى فترة ما بعد السيستاني.
الإستراتيجيات الإيرانية للسيطرة على حوزة النجف
لقد عبر قادة الجمهورية الإسلامية منذ فترة طويلة عن شكوكهم حيال ظهور مرجعية تقليدية مستقبلية في الخارج. ويدرك القادة الدينيون في إيران صعوبة فرض إرادتهم على مثل هذه المرجعية. وفي ١٩٩٤ هاجم إمام الجمعة في طهران أحمد جنتي، السيستاني، في إشارة إلى ضعف علاقات السيستاني مع الخميني حينما كان الأخير في المنفى بالنجف، حيث وصفه بأنه “يأتمر بأوامر بريطانيا”. وكشف الرئيس الإيراني السابق أكبر هاشمي رفسنجاني أيضا في مذكراته أنه ناقش هو وخامنئي في كثير من الأحيان ظهور زعيم ديني خارج حدود إيران واستراتيجيات لتعزيز موقف “قم” ضد النجف.
اثنان ممن كان يُعتقد أن خامنئي يفضلهما لخلافة السيستاني، توفيا. الأول هو آية الله شاهرودي، الرئيس السابق لمجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران، حيث توفى في أواخر ٢٠١٨. وُلد شاهرودي لعائلة إيرانية في النجف، وكان أيضا رئيس السلطة القضائية في إيران لمدة عشر سنوات. الثاني هو محمد مهدي آصفي، الوكيل الرسمي لخامنئي في النجف، وقد توفى في ٢٠١٥. السيد كاظم الحايري والسيد كمال الحيدري هما من رجال الدين البارزين الآخرين المقربين من خامنئي، لكنهما يعيشان في “قم” ولا يحظيان بشعبية في النجف. وفيما يتعلق بحوزة “قم”، حاول خامنئي أن يُبيّن بأنها تدعم بالكامل ولاية الفقيه وجدول أعماله السياسي. لكن معظم علماء “قم” يحترمون حتى اليوم عقيدة السيستاني السياسية ولم يبدوا أي اهتمام بالأجندة السياسية لولاية الفقيه وخامنئي.
في ضوء هذه القيود، يحاول خامنئي توسيع نفوذه السياسي على النجف بطرق أخرى. على سبيل المثال، قام بتعيين السيد مجتبى حسيني كوكيل خاص له في النجف، حيث يدير ثلاث مدارس دينية بهدف تربية الطلاب ليصبحوا شخصيات دينية في الحوزة. ومعظم الأحزاب السياسية الشيعية في العراق، التي تربطها علاقات وثيقة بإيران، مثل “حزب الدعوة”، تدعم مركزا في حوزة النجف هدفه تعزيز الإسلام السياسي الشيعي بين الطلاب. ويقوم خامنئي بانتظام بدفع مرتّبات جميع طلاب الحوزة في النجف.
توضح هذه الإجراءات أن خامنئي يدرك أنه لا يستطيع بسهولة تعيين خليفة للسيستاني في النجف. لذلك، لجأ إلى إستراتيجية تهدف إلى خلق انقسام في حوزة النجف، حيث هناك طرف يدعمه ويدافع عن عقيدة ولاية الفقيه، وطرف آخر يتمثل في الشيعة التقليديين الذين يدعمون السيستاني ونهجه. ومن خلال هذه الجهود، يتابع الزعيم الإيراني عدة طرق لتعزيز موقفه بين أنصاره. وأخيرا، ورغم العقبات والمقاومة التي يواجهها في النجف، فإن الفراغ الذي سيحدث حتما في غياب السيستاني، سيوفر لخامنئي فرصة عظيمة لتوسيع هيمنته على النجف، بالطبع إذا استطاع أن يظل على قيد الحياة حتى ذلك الوقت.
**علي معموري، باحث وصحفي متخصص في الدراسات الدينية والأصولية في الشرق الأوسط، ويدرّس العلوم السياسية في جامعة سيدني بأستراليا. وهو رئيس تحرير مكتب نبض العراق في “المونيتور”، وعمل سابقا محاضرا في جامعة طهران.
نقلاً عن “معهد واشنطن“- ترجمة “شفاف”