لا ازعم انني متابع لكل خفايا وسياقات وصفقات وثنايا مسلسل سلسلة الرتب والرواتب التي اقرت مؤخرا بالتوازي مع احتواء نقابة المعلمين كاخر جسم نقابي مستقل، خصوصا ان النقابة ساهمت بشكل اساسي بقيادة الحراكات التي رافقت هذا المسلسل، منفردة ومن خلال هيئة التنسيق النقابية التي تفككت كما تفككت هيئة التنسيق في التسعينيات والتي شكلت رابطة اساتذة الحامعة اللبنانية عصبا رئيسيا فيها..
للسلسلة تداعيات كثيرة على الإقتصاد والنقد وقضايا أخرى لسنا بصدد مقاربتها الآن، خصوصا أن الأكلاف والضرائب والإيرادات غير مكتملة المعالم بعد. ومن تداعيات السلسلة انتفاضتي القضاة واساتذة الجامعة والذين شكلت سلاسل رواتبهم في ٢٠١٢حافزا لحراك الاخرين.
ومع ان الفروقات في السلاسل شكلت احد اسباب الانتفاضتين، الا ان صناديق التعاضد ومشروع الغائها حسب المادة31 من السلسلة المقرة شكلت الهاجس الاكبر عند المجموعتين، ولطالما تقاربت هاتان المجموعتان في السلاسل والحقوق والمكتسبات، رغم انه لكل مجموعة خصوصيتها وتفسيراتها لهذه الخصوصية..
ومع انني خرجت من النشاط النقابي منذ اواخر القرن الماض وانتقلت لاهتمامات اخرى، بينها المدينة الجامعية في المون ميشال، الا ان صندوق التعاضد له تكهة خاصة عندي، خصوصا انه كان لي شرف المساهمة الاساسبة في انشائه وتعزيزه الى جانب زملائي من نقابيي تلك الايام، والصندوق شكل فعليا نقلة نوعية في تعزيز جسم الاساتذة وبالتالي في شعورهم بالامان الصحي والتربوي لهم ولعائلاتهم مستذكرا دائما الزميل الراحل جورج نجار في اول التسعينيات من القرن الماضي والذي غادرنا باكرا بسبب ضعف الاهتمام الصحي في غياب صندوق خاص بالاساتذة.
ومع انني ممن قالوا وكتبوا كثيرا حول التدهور الكبير الذي طال الجامعة والتراجع الحقيقي في اهتمامات الاساتذة، وبعضهم اعتبرها ملاذا واستكان في كنفه، (ومقالي مع رحيل جيلبير عاقل الذي نشر في قضايا النهارمؤخرا، صب في هذا الاتجاه) الا ان الغاء صندوق التعاضد وتراجع الرواتب بالقياس لفئات اخرى سيشكل ضربة قاسية لخصوصية استاذ الجامعة التي اقرتها كل الشرائع الاكاديمية، خصوصا في المجتمعات المتقدمة، وسيقضي على ما تبقى من همة اكاديمية، بحثية وتعليمية، في خزان الجامعة الذي ما زال يحتوي طاقات مهمة، رغم التسييس والمحاصصة والزبائنية التي تنخر هذا الخزان..
ما اريد ايضاحه هو ان الوضع الحالي للجامعة سيزداد سوءا وسيؤدي الى:
اولا: ضعف استقطاب الكفاءات الابداعية، خصوصا في المجالات العلمية والتكنولوجية، والتي ستذهب اما للجامعات الخاصة المهمة، او تفضل الهجرة او البقاء في الخارج حيث المناخات الاكاديمية متلازمة مع شبكات الامان المتنوعة.
ثانيا: يقابلها هجمة من الشهادات ذات المستوى العادي ما سيضعف القدرات التنافسية المتراجعة لاسباب شرحناها سابقا.
ثالثا: تراجع في المستويات التعليمية، لجهة التكاسل عن تطوير محتوى المقررات، كما عن الالتزام بالدوام مع ميل اكثر نحو اختراع الساعات الوهمية.
رابعا: تراجع في الاهتمامات البحثية، خصوصا ان المناخات الاكاديمية تغزوها الرطوبة
وحسنا فعلت قيادة الرابطة في دق النفير العام، على ان يحاذروا امرين اساسيين:
أولا: ان لا يستعملوا الطلاب رهائن في معاركهم، وان يعملوا على ايضاح قضيتهم للطلاب وللرئي العام الذي خسروا جزءا كبيرا منه ومن تقديره للخصوصية الابداعية التي اكسبت الجامعة اللبنانية في السابق مكانتها العالية في الداخل والخارج على السواء..
واستطرادا عليهم ان يكونوا مستعدين لتقبل النقد سواء على مستوى الادارة، سواء على مستوى الاساتذة، اذ هم ليسوا بغافلين عن السوس الذي ينخر في اجسام الادارة والاساتذة وحتى عند الطلاب المحرومين الى حد كبير من المناخات الاكاديمية السليمة والتمثيل الطلابي الديمقراطي والمتروكين فريسة للقوى الطائفية والمذهبية.
ثانيا: أن لا يتراخوا في حراكهم وأن يحزموا أمرهم في التصدي لهذا الخطر المحدق على خصوصيتهم، وأن يتحركوا بشكل نقابي مستقل عن القوى السياسية، رغم ازدواجية انتماءات أعضاء قيادة الرابطة.
واخيرا نأمل ان يتذكر المسؤولون الى ان التعليم العالي يشكل احد الاساسات لقيام هذا البلد الصغير القائم على الغنى والتنوع الانساني، وان الجامعة اللبنانية تشكل مرتكزا اساسيا في عملية البناء الاكاديمي، وان الاعتراف بخصوصية الاستاذ الجامعي القائم على التفرغ ومستلزماته يشكل مدخلا من مداخل تعزيز الجامعة اللبنانية، كما ان استقلالية الجامعة ووقف التسييس والتطييف والفئوية يشكل المدخل الآخر في عملية وقف التدهور بالتوازي مع اعادة نقاش في الدور والتنظيم والفروع على ضوء تطور التعليم العالي من جهة والانماء المتوازن المرتكز على اللامركزية الادارية من جهة أخرى..
talalkhawaja8@gmail.com
- طرابلس- لبنان