كنت قد اعتقدت انني توقفت عن الإنغماس بالقضايا النقابية والتنظيمية والبنيوية في الجامعة اللبنانية بعد ان تعرضت لهزيمة، انا واللائحة التي نسقتها في كلية العلوم الفرع الثالث في اواخر الالفية، بعد خدمة في ثلاث هيئات تنفيذية متتالية شهدت المواجهات الرئيسية مع قوى الامر الواقع. خصوصا المرتبطة بالنظام الامني السياسي الذي بدأ يولد تحت الوصاية السورية والذي لم يوفّر الجامعة اللبنانية، سيّما أنها شكلت لضباطه الدجاجة التي تبيض شهادات! وقد ادت المواجهات الى:
١- ابطاء نسبي في تداعيات التفريع الامني /السياسي واثاره العميقة في التسييس والمحاصصة والزبائنية، ما اطاح عمليا بالاستقلال الذي تمتعت به الجامعة طويلا من خلال مجلس الجامعة وغيره من المجالس الاكاديمية.
٢- اعاقة احتواء الاساتذة واهل الجامعة عموما من قبل القوى المذهبية، خصوصا المرتبطة بسلطة الوصاية، كما جرى لاحقا للاتحاد العمالي والذي ادى الى تفكك هيئة التنسيق النقابية التي تشكلت اساسا من الاتحاد العمالي ورابطة الاساتذة ورابطة الادارة وروابط المعلمين.
٣- تحقيق مطالب رئيسية للجامعة عموما وللاساتذة خصوصا، نذكر منها تحسين الرواتب وصندوق التعاضد واستكمال بعض كليات المدينة الجامعية في الحدث، فضلا عن مطالب أكاديمية وإدارية وبداية عودة خجولة للمجالس التمثيلية.
ومع ان الهزيمة النقابية اتت على يد بعض الحلفاء في المواجهة مع القوى المهيمنة على ادارة الجامعة، الا انها شكلت ايذانا بانهاء الاستعصاء الديمقراطي الشمالي الذي استند على فئات لم تعد قادرة على الافلات من الإنضواء في اطار معين للصراع المتصاعد في البلد عموما. وبلغة أخرى فقد عمقت هذه الخطوة الجانب المذهبي من الصراع المندلع في الجامعة، معلنة انضمام معظم مندوبي الفروع الشمالية الى القبضة السنية الاجمالية التي تفلتنا منها طويلا.
ومع ان هذه الخطوة شكلت حافزا لنا لنقل اهتمامنا الى ميادين نضالية مختلفة، خصوصا اننا كنا قد بدأنا في رحلة مشروع المدينة الجامعية في “المون ميشال” مع الرئيس الشهيد، والذي اعاد اكتساب قوة دفع كبيرة بعد انتصار الحريري في انتخابات ٢٠٠٠ وانتفاضة كلية العلوم في القبة والتفاف المجتمع الشمالي والطرابلسي خصوصا حول قضايا الجامعة و البناء الجامعي الموحد، الا ان القضايا الاكاديمية والبنيوية والتي تتعلق بدور وبمستقبل المؤسسة التي نهضت على اكتاف رومانسيي واكاديميي زمن النضال الديمقراطي، ظلت تشكل قوة الجذب الرئيسية.
لقد اعتقدنا ان انخراطنا في ورشة بناء مناهج LMD في الجامعة، وصياغة المقررات الجديدة، وتأليف الكتب العلمية المناسبة، سيستنزف معظم طاقتنا ويرضي جذوة العمل والامل فينا. خصوصا ان هذه الورشة قد قادها استاذنا ابراهيم الحاج احد هؤلاء الاكاديميين الاوائل الذين رافقوا جزءا مهما من مسيرة الراحل حسن مشرفية. الا ان تتابع الانحدار التنظيمي والاداري كان يهدد كل انجاز، خصوصا مع دخول الجامعة من الباب العريض نادي القطاع العام بامراضه المزمنة، بما فيه امراض الهدر والفساد وعدم الكفاءة، فضلا عن الاورام بانواعها، علما ان ادارة حوالي خمسين فرع على طريقة دوائر المحافظات باتت مستحيلة عمليا، فضلا عن انها غير عادلة إطلاقا.
لقد جرت محاولات اصلاحية متعددة في تسعينيات القرن الماضي، وكان لي حظ المشاركة باحداها عبر صياغة مشروع تنظيمي مرن ومتقدم شارك فيه رئيس الجامعة ومدير عام وزارة التعليم العالي ورئيس المركز التربوي للبحوث ورئيس الهيئة التنفيذية للرابطة آنذاك عصام خليفة وكنت نائبا له. الا ان هذا المشروع كغيره ضاع في خضم التناتش الإجمالي بين القوى الفئوية والذي كانت الجامعة تشكل احدى مسارحه الدرامية، تماما كما ضاعت محاولة لاحقة اداراها احمد بيضون وحسن منيمنة بسبب من انقسامات الاساتذة، خصوصا بين الفروع الاولى والثانية.
لم يعد سرا ان تصاعد الانقسامات المذهبية في البلد قد سرع في تدهور الواقع الإداري والأكاديمي في الجامعة، وهو تدهور طاول الاداة النقابية للاساتذة التي باتت شبه مطابقة مؤخرا للقوى السياسية الطائفية في البلد، كما طاول المجالس التمثيلية، حتى لكأننا اصبحنا في فيدرالية الجامعة اللبنانية. وقد ترافق ذلك مع انقسامات طلابية حادة في بعض الفروع، استعملت ذريعة من قبل ادارة الجامعة لتعطيل التمثيل النقابي الطلابي الهش اساسا، ولم يكن الواقع النقابي للموظفين بافضل حال بالطبع، خصوصا ان توظيفهم لم يكن يعتمد معيار الكفاءة في اكثر الأحيان.
ادت قرارات التشعيب التي طاولت كلية العلوم تحت ذريعة انصاف المناطق المحرومة إلى مزيد من تدهور العملية الاكاديمية والى تحويل التعليم الجامعي الى تعليم مدرسي، ولم تشكل قرارات مجلس الوزراء في انشاء فروع جامعية جديدة في عكار وكسروان/جبيل وبعلبك/ الهرمل سوى ذر للرماد في العيون، نظرا لصعوبة التنفيذ ولركاكته البديهية في حال حصوله، اذ كان الأجدر انشاء ودعم المجمعات والمدن الجامعية في الفروع الحالية وبناء مساكن للطلاب ومراكز ابحاث، وايجاد حوافز لطلاب المناطق النائية والمهمشة على شكل تسهيلات في السكن والنقل وانشاء كليات متخصصة في هذه المناطق، فضلا عن اعادة العمل بمنح التفوق والاختصاص.
الصورة: المدينة الجامعية في “المون ميشال”
قد يتساءل البعض عن إمكانية اصلاح الوضع الاكاديمي بعد كل هذا التدهور، وللجواب ربما علينا طرح الاسئلة التالية:
١- الى اي حد اصبح التطابق بين واقع القطاع العام المريض وواقع الجامعة اللبنانية.
واستطرادا، هل ما زال الاصلاح ممكنا بشكل مستقل بعد استفحال سياسة المحاصصة والزبائنية وما تجره من تورم وهدر وفساد.
٢- بعد التطورات النوعية في التعليم العالي في البلدان المتقدمة، خصوصا على ضوء القفزات الهائلة في العالم الرقمي وانعكاس ذلك على طبيعة ومرونة وحساسية والعمل الاداري في الجامعات، هل ما زال ممكنا ادارة مركزية شديدة لخمسين فرع في مختلف المحافظات والمناطق على طريقة ادارة الوزارات.
٣- ما هو الواقع الاكاديمي الاجمالي في البلد وخصوصا بعد انتشار الجامعات الخاصة والمذهبية كالفطر، وكيف يفرز الغث من الثمين.
٤-كيف ننظر لشعار ديمقراطية التعليم اكاديميا، خصوصا مع اشتداد المنافسة، وتحول كثير من الطلاب للبطالة المقنعة، فضلا عن العلاقة مع اسواق العمل وادارات الدولة وازماتها.
٥- ممن تكون قوى الاصلاح.
اساتذة؟ طلاب؟ موظفين؟ احزاب او حراكات سياسية ؟قوى المجتمع المدني؟ علما ان الجامعة قد نهضت على اكتاف هؤلاء جميعا ضمن معارك ومواجهات كبيرة تضافرت فيها جهود قوى كثيرة، وخصوصا القوى العلمانية واليسارية والمتنورة وفي اطار نهوض ديمقراطي اجمالي.
دعونا ننطلق من ان الجامعة اللبنانية تؤدي الوظيفة الأساسية في تخريج الكوادر الرئيسية في شتى المجالات. ورغم التقييمات الاكاديمية التي تتبع قواعد ومقاييس معينة، ورغم الضغوطات والازمات في الجامعة اللبنانية، فان خريجي كلياتها العلمية والتطبيقية، على الأقل، ما زالوا يتمتعون بميزات تفاضلية كبيرة في الأسواق الداخلية والخارجية، ما يجعل الدفاع عنها مهمة اساسية للحريصين على نهوض البلد الاقتصادي والاجتماعي وحتى الوطني، لما لها من دور في تنمية ثقافة وطنية تقوم على التنوع والتعدد واحترام الاخر وعلى توسيع المساحات المشتركة بين اللبنانيين وخصوصا الشباب منهم. وربما شكل هذا الموضوع الاخير سببا رئيسيا لاختيارنا المون ميشال في راس مسقا كمكان لانشاء مدينة جامعية شمالية، عله يشكل جاذبا لاقضية الكورة والبترون وبشري وحتى جبيل، فلا انفتاح وإنتاج علمي وتكنولوجي جدي الا اذا ترافق مع انفتاح اجتماعي وثقافي وفكري في مناخ من الحوار والحريات وخصوصا الحريات الاكاديمية وضمن صروح جامعية لائقة.
لا يوجد شخص في الجمهورية اللبنانية يعتقد انه يمكن انجاز اصلاحا جذريا في الجامعة اللبنانية مفصولا عن الاصلاح السياسي في النظام اللبناني، ذلك ان منظومة الطوائف وادواتها واحزابها،خصوصا الممانعة منها، قد اخترقت بنيتها ونسيجها وحتى مسامها، معرضة شرايينها الاكاديمية للإنسداد.
ومع ذلك فان قوى المواجهة من الداخل والخارج ما زالت تمتلك رصيدا معقولا يمكن الاعتماد عليه بوقف التدهور ووقف العبث بمكانتها وسمعتها ومقوماتها، ولا حاجة للتدقيق بالتعيينات وبصفقات التفرغ والتعاقد والمدربين، فضلا عن عقود الشراء وغير ذلك لاكتشاف حجم الهدر والخلل والتردي.
وربما وجب مراجعة قضية الادارة المركزية للفروع، حتى لو ادت المراجعة لطرح فكرة تحويل بعض الفروع الاساسية لجامعات مستقلة بعد وضع معايير ومحاذير معينة كي لا تتحول لمدارس او لقلاع مذهبية ونذهب “من تحت الدلفة لتحت المزراب”، مع ضرورة تخفيف القبضة المركزية كمرحلة انتقالية.
قد يؤدي هذا التصور الذي يضمر التحلي بالنفس الطويل والعمل المتدرج ومواجهة مكامن الخلل الفادح لمزيد من الإحباط، خصوصا مع انكشاف مكامن الضعف في قوى الإعتراض داخل الجامعة وبالطبع في المجتمع المدني الديمقراطي الهش عموما.
ومع ذلك لا مناص من تحفيز هذه القوى، خصوصا الاساتذة الذين ينتخبون رؤساء الأقسام وممثلين لمجالس الجامعة والفروع، كما يؤثرون بتعيين المدراء والعمداء، فضلا عن انتخاب قيادة رابطة الاساتذة، علما ان معظمها تتم بشكل مذهبي وفئوي ومناطقي، ما يخفف من قيمتها التمثيلية ويجعلها أسهل على الإختراق.
ويبقى الاساس ان يخرج من المجتمع المدني تيار ديمقراطي عابر للطوائف يعتبر الجامعة اللبنانية(والتربية عموما)ركنا اساسيا من اركان اي نهوض جدي للبلد المعاق والمأزوم وحتى المقهور، ما يفتح ثغرة في الجدار الطائفي، ممكن أن يدخل منها الضوء نحو الطلاب المعطل دورهم الديمقراطي، كما سينعكس على اداء وتأثير الاساتذة في العملتين الديمقراطية والأكاديمية.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس- لبنان