أشرنا في مقالة سبقت إلى حقيقة أن نظرية المؤامرة تصلح للتدليل على الشيء ونقيضه.
ونُضيف، اليوم، أن أطرف ما في موضوع نظرية “المؤامرة الماسونية” أنها بضاعة منتهية الصلاحية، وأنها خرجت من التداول مع انتهاء الحرب الباردة. فقد كانت سلاحاً في محاربة الشيوعية، والقوميات الصاعدة في المستعمرات، والمعادية للإمبريالية. وطالما عرفنا متى انتهت ينبغي الكلام، أيضاً، عن تاريخ دخولها الخدمة كسلاح أيديولوجي، وهذا التاريخ وثيق الصلة، على الأرجح، بالحراك الثوري في روسيا القيصرية الذي أطاح بعرش القياصرة في ثورة أكتوبر 1917.
ولنتوقف، قليلاً، عند موضوع الماسونية، التي ظهرت في القرن الثامن عشر، كمحاولة لإنشاء دين جديد، كما فعلت الثورة الفرنسية في حينها، تجتمع فيه عناصر من أديان وفلسفات شرقية وغربية. وعلى غرار ما لا يحصى من الجماعات السريّة والباطنية، في الشرق والغرب، التي ابتكرت لنفسها نسباً وهمياً يعود إلى قرون بعيدة، وينسج من المُبهم والملتبس والعجائبي تاريخاً أسطورياً، ورموزاً سحرية، وطقوساً سريّة، وتراتبية خاصة، أنشأت الماسونية سرديتها وجمعياتها ومحافلها في بلدان مختلفة.
والمهم، أنها قوبلت بالعداء من جانب الكنيسة الغربية، والقوى المحافظة والرجعية، التي رأت في توليفتها الدينية والفلسفية، وطقوسها السرية، تهديداً لقيم المجتمع التقليدية. وكما في كل تاريخ الحركات السرية والباطنية، جذبت التوليفة نفسها الكثير من الطامحين إلى تغيير تلك القيم. والأهم، أن ما أحاط بها من غموض مكّن الكثيرين من توظيفها، سياسياً وأيديولوجياً، بطرق مختلفة.
ومن هؤلاء مخابرات القيصر المعنية برصد وملاحقة نشاط الثوريين الروس، وكان بعض هؤلاء من اليهود. تاريخ اليهودي كآخر، وغريب، ومصدر خطر مُحتمل، طويل وعريض في أوروبا. ولا يعنينا منه، الآن، سوى أن ظاهرة الثوريين الروس، معطوفة على عداء النظام القيصري الرجعي للماسونية، ومع الارتياب الدائم من اليهودي، حرّضت مخابرات القيصر على “فبركة” وثيقة سيئة الصيت والسمعة، ستعرف لاحقاً بعنوان “بروتوكولات حكماء صهيون“ للإيحاء بوجود مؤامرة يهودية ـ ماسونية يسعى مدبروها لتقويض الحضارة الغربية المسيحية، والسيطرة على العالم.
والمهم، أيضاً، أن الروس البيض، أي أنصار القيصرية، الذين خاضوا حرباً أهلية فاشلة ضد النظام الشيوعي، وهربوا بعد هزيمتهم إلى أوروبا الشرقية والوسطى، حملوا معهم خرافة البروتوكولات، التي وجدت فيها النازية الألمانية، والفاشية الأوروبية عموماً، سلاحاً أيديولوجياً من الوزن الثقيل. ما حدث بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، معلوم ولا يحتاج إلى مزيد شرح أو توضيح.
ولكن ما يستحق الشرح والتوضيح يتمثل في طريقة وصول البروتوكولات، ونظرية المؤامرة الماسونية ـ اليهودية، التي أصبحت الشيوعية الروسية، في نظر الرجعيين والمحافظين الأوروبيين، قناعها الجديد، إلى العالم العربي. فقد وصلت عن طريق ضباط مكتب المستعمرات البريطاني إلى مصر، وفلسطين. ولا يعنينا ما إذا كان بعض هؤلاء قد صدّق، فعلاً، حكاية المؤامرة، بل التذكير بحقيقة أن مكافحة الخطر الشيوعي، بالمعنى السياسي والأيديولوجي، أصبحت على رأس قائمة أولويات الاستعماريين البريطانيين في الشرق الأوسط، ومناطق أخرى من العالم.
وما يستحق التنويه أن الفترة الزمنية التي شهدت وصول البروتوكولات، ونظرية المؤامرة الماسونية، إلى العالم العربي، شهدت ولادة الإسلام السياسي في مصر، أيضاً. ربما لا يبدو من قبيل المصادفة أن جماعة الإخوان ولدت في الإسماعيلية، التي تمركز فيها البريطانيون. لا أريد الإيحاء أن الجماعة وُلدت على فراش مؤامرة بريطانية، ولكن تأثرها بنظرية المؤامرة على الإسلام والمسلمين، واستهلاكها للبروتوكولات حقيقة يصعب إنكارها.
والمهم، على غرار المحافظين والرجعيين الأوروبيين الذين كانوا معادين للماسونية، وتوجّسوا من دور اليهود فيها، تبنى المحافظون والرجعيون العرب النظرة نفسها، وبهذا المعنى كانوا شريكاً أيديولوجياً، وإن اختلفت الدوافع والأسباب، للبريطانيين، وفي وقت لاحق، الأميركيين، في حرب مكافحة الشيوعية والمد القومي الساعي إلى تحديث وعصرنة مجتمعات تقليدية.
وقد انفجر هذا كله في صراع وجودي محموم، في زمن الحرب الباردة، وصعود القومية العربية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يطرح الأميركيون نظرية “الحزام الأخضر“، أي توظيف الدين للحيلولة دون وصول “الدب الروسي“ إلى المياه الدافئة، بعد الحرب العالمية الثانية. ولا كان من قبيل المصادفة أن ينصب الأميركيون مصيدة للدب في أفغانستان، وأن يجدوا بين المحافظين والرجعيين العرب أنظمة، وحركات وأحزاب، أكثر الحلفاء والشركاء حماسة في آخر جولات الحرب الباردة.
والواقع أن “الطلب“ على القوى المحافظة والرجعية، خاصة بعد الثروة النفطية، أفرز ظاهرة “أسلمة التعليم“ والجامعات “الإسلامية“ لتقوم مقام الدفيئات الأيديولوجية، وتضفي على نظريات المؤامرة رطانة ومهابة “الأكاديميا“. ولنلاحظ أن نظريات المؤامرة لم تتمكن من اختراق الأكاديميا الغربية لأسباب تعلّق بحساسية موضوع العداء للسامية، وعراقة التقاليد المهنية، واحتدام المنافسة، ووجود ضمانات دستورية لحرية الرأي والتعبير، واستقلالية البحث العلمي.
وهذا كله لا يتوفّر في العالم العربي. ولا يثير قلق أحد. فلن تعاقب جامعة عربية، في وقت قريب، شخصاً يعتنق نظرية المؤامرة، ولن تحصل جامعة عربية، في وقت قريب، على مكانة مرموقة بين جامعات العالم. كل ما في الأمر أن العقل في إجازة، وأن “داعش” يبدو تحصيلاً للحاصل، وأن شخصاً يقول إن الماسونية اللعينة اللئيمة الزنيمة أنشأت “منظمة التحرير” لن يشكو ندرة المُصفقين والسامعين، ولن ينتبه أحد إلى حقيقة أن البضاعة منتهية الصلاحية، وأن المعني يسحب من رصيد نفد.
khaderhas1@hotmail.com
تمارين في نظرية المؤامرة..!!