تحديث: بعد نشر هذا المقال على “الشفاف” بحوالي أسبوعين، اكتشفت على “يوتيوب” (أطال الله عمره!) مقابلة تلفزيونية مع “مظفّر” يتحدث فيها عن لقائه مع صدّام حسين. ويشير فيها إلى قصة هدية المسدّس الذي أهداه له صدّام، وكنت قد نسيتها عندما كتبت مقالي. وتذكّرت أنه قال في حينه أنه خاف أن يمدّ يده إلى المسدّس خوفاً من أن “يركّب” له رواية محاولته “اغتياله”.
أضيف الفيديو أدناه، وقد هزّتني صورة العزيز “مظفّر”، الذي يبدو هنا “متعباً”، وهو الذي كنت أعرفه “ظريفاً” و”ضاحكاً”.. و”مجلجل الصوت”، و.. “رائعاً”، رغم كل “الحزن العراقي الهائل” الذي كان موضوع قصائده وأغانيه!
وداعاً أيها الصديق العظيم:
*
كان مظفّر النوّاب صديقي في بيروت، ثم في باريس! وكان القاتل صدّام حسين “عدوّي”، و”عدو البشرية”! لم أقبل يوماً دعوات نظام صدّام لزيارة بغداد حتى حينما كان “جبيب الأمة العربية”، بل فقدت عملي في لندن لانني رفضت الدعوة لزيارة بغداد.. للمرة الثالثة!
لأن مظفّر كان صديقي، فقد وجدت أن من الضروري تصحيح رواية “فراره مظفّر من السجن” التي يتم تداولها الآن على صفحات التواصل الإجتماعي!
أخبرني مظفّر بنفسه الرواية، ولم أسمعها “نقلاً عن..”: حينما قام البعثيون بحملة اعتقال واسعة شملت كل الشيوعيين، كان مظفّر بين المعتقلين. من السجن أخذوا مظفّر لمقابلة صدام حسين!
قال له صدّام أنه معجب به وبأشعاره، وأن اعتقاله كان “بطريق الخطأ”..! وللتدليل على اعجابه به، فقد أخرج “كاسيت” عليه قصائد لـ”مظفّر” بصوته! ثم سأله عما يمكن أن يقدّمه لـ”شاعر عراقي كبير مثلك”!!
أضاف مظفّر أنه قال لصدّام أنه ليس عنده “مَطلب” سوى أن يتم السماح له بنشر قصائده في كتاب بالعاصمة اللبنانية! سوى أنه لم يكن يملك “جواز سفر” للسفر إلى بيروت!
سأله صدّام: متى قدّمت طلبك للحصول على “جواز سفر”؟ أجاب صدّام: “في عهد نوري السعيد”!
وكان مظفّر يقهقه وهو يخبرني أن جواز السفر الذي طلبه قبل سنوات طويلة في عهد “نوري السعيد” جاءه بعد ساعة أو ساعتين من يد صدام حسين!
أخذ مظفّر “جواز السفر” وخرج من العراق، ولم يعُد حتى سقط صدّام.
*
في نفس الجلسة، أخبرني مظفّر عن قصة جواز سفر ثانٍ أخذه من النظام السوري في عهد صلاح جديد: قال أنه وصل بالطائرة إلى بيروت، وقدّم جواز سفره “السوري” لضابط الأمن العام في المطار. سأله الضابط اللبناني “هذا فعلاً جواز سفرك”؟ أجابه، محتاراً، “نعم هذا جواز سفري”! وبعد ان تكرّر السؤال والجواب، قال الضابط اللبناني لمظفّر: “أنت تحمل جواز سفر شخص مطلوب بجرائم قتل! ولكن شكلك لا يوحي بأنك قاتل! والليلة ليلة رأس السنة، ولا أريد اعتقالك! أخرح إلى بيروت، وارمِ جواز السفر هذا، ودبّر جوازاً غيره”! حسن حظ مظفّر، أو خبرة الضابط اللبناني بـ”ألاعيب” المخابرات السورية، وكثرة “الأجنحة” في نظام البعث، أنقذته من الإعتقال في بيروت!
*
لم أقرأ أشعار مظفّر في السنوات الأخيرة، وتغيّرت نظرتنا إلى “قضايا العرب”! ولكني لاحظت أن أحداً لم يتحدّث عن “مظفّر النواب كـ”مسرح بشخص واحد“. كان مظفّر “ممثلا رائعاً” حينما يلقي قصائده، خصوصاً باللهجة العراقية. كان مظفّر “يتحوّل”، حتى لكأنك تنظر إلى شخص آخر غير الشخص الذي كان بجانبك قبل دقائق. كما شهدَ على ذلك الصديق “سعود المولى” (الذي لا يميّز زجاجة ويسكي إسكتلندي عن زجاجة ويسكي “شغل برج حمّود”!) في جلسة في بيتي!
*
ظلّ صدّام يسعى لاستمالة مظفّر لعدة سنوات. فأرسل له عرضاً لدفع “تعويضاته” عن عمله الحكومي عبر شخصية شيعية لطيفة قريبة من النظام العراقي! وكان مظفّر في جينه يكتب مقالات لجريدة “الهدف” التي كان صديقي بسام أبو الشريف رئيس تحريرها! ولكن ذلك لم يمنع سفارة العراق من إرسال بعض “العُسُس” من أجل “فضّ” ندوة شعرية أقمناها له في باريس.. بالقوة!
*
أعجبني قبل يومين ما كتبه عنه الصديق والسفير “ألبرتو فرنانديز” على صفحته على الفايسبوك:
He was a very specific type of Arab poet – sarcastic, obscene, furious, unafraid of the powerful, a populist – as a person, he was modest, polite and thoughtful. I liked him very much. Rest in peace.
معه حق، مظفّر، كشخص، كان متواضعاً، ومهذّباً، ومفكّراً، وساحراً. ولو أنه كان عنده ميل لـ”نظريات المؤامرات التي تحيكها الأنظمة”، كان يبدو لي أجياناً أنها تنمّ عن “تفكير ميتافيزيقي”!
“إرقد بسلام، مظفّر”!
مع التقدير لرئيس حكومة العراق، السيد مصطفى الكاظمي، الذي استقبل “مظفّر” كبطل وطني عراقي!
النواب هو نتاج عصر الثوروية الفارغة في ستينات وسبعينات القرن الماضي. الكثير من الناس الذين مارسوا النشاط السياسي الثوري في تلك المرحلة لم يكونوا يفهمون ألف باء لا السياسة ولا الإقتصاد ولا حتى الثورة بمعناها الحقيقي. هؤلاء الشباب كانوا فقط أناس ذو نزعة شبابية إرادوية حركية وعاطفية. وقد وجدوا في الأحزاب الثورية، كالحزب الشيوعي وحزب البعث، المجال الذي ينفسون من خلالها عن طاقاتهم الشبابية الحركية. وبعد أن تجاوز هؤلاء مرحلة الشباب إلى مرحلة الكهولة ثم الشيخوخة، بدأت طاقاتهم ونزعاتهم الشبابية الإرادوية والحركية بالإضمحلال ثم الزوال. هذا التحليل يفسر لماذا كان مظفر النواب ثورويا في شبابه، ثم لا إكتراثيا ولا أباليا… Read more »